يسود في واشنطن، كما في تل أبيب، صمت بخصوص الاعتراف الرسمي بتنفيذ إسرائيل غارة جرمايا، وذلك جرياً على «تقليد التكتم» على إعلان مثل هذه العمليات المصنفة بأنها «خاصة»، وتستهدف تطبيق روزنامة «ضربات نقطوية ونوعية ضد أهداف ارهابية منتقاة». وتستند إلى «مسوغات قانونية عبر قرارات صادرة عن مجلس الأمن»، حسبما نقلت مصادر دبلوماسية عن كلام خاص لمسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية.
وبحسب المصدر الأميركي، فإنّ كل الرواية الرسمية السورية عن غارة جرمايا، عارية من الصحة، و«كتصحيح» لها يوجد لدى البنتاغون رواية أخرى مناقضة تماماً، ويصفها بأنها موثوقة. تقول الرواية الأميركية إنّ الغارة الإسرائيلية لم تستهدف مركزاً عسكرياً للتدريب في ريف دمشق، كما قال البيان السوري الرسمي، بل إنّ الهدف الذي قصف، هو بالتحديد، قافلة عسكرية كانت مرسلة إلى حزب الله تحمل عدداً كبيراً من صواريخ «سام ٩» المضادة للطائرات، وطرازات أخرى متطورة من الأسلحة.
وتضيف الرواية الأميركية أنّ القرار بتنفيذ الغارة جاء بعد رصد أكثر من حالة نقل لصواريخ من سوريا إلى حزب الله في لبنان، جرت خلال الأشهر الأخيرة. وأضافت أنّ الإدارة الأميركية تعتبر القافلة التي استهدفتها الغارة الإسرائيلية، هي «جزء من نمط (pattern)، أي الالتفاف على قرارات مجلس الأمن ذات الصلة».
ويوضح المصدر الرسالة الذي تريد غارة جرمايا إيصالها إلى النظام السوري وإلى حلفائه الإقليميين والدوليين، ومفادها «أنّه يجب الأخذ بالاعتبار على نحو مشدد، أهمية وضرورة الالتزام بتطبيق واحترام القرارات الدولية القاضية بمنع نقل الأسلحة إلى حزب الله».

قصف عن بعد

وعن الكيفية التي نفذت بها الغارة الإسرائيلية، رجّحت مصادر عسكرية مطلعة لـ«الأخبار» أنّ الطائرات الإسرائيلية المغيرة لم تدخل الأجواء السورية، وليس صحيحاً أنّها تسلّلت إلى هدفها على مستوى منخفض. وتقول المصادر عينها إنّ القصف الجوي وُجِّه نحو الهدف في جرمايا، من منطقة جبل الشيخ على الحدود بين سوريا والجولان المحتلّ، حيث أطلقت طائرتان إسرائيليتان من مسافة تبعد عن الموقع المستهدف في جرمايا، ما بين ٤٢ إلى ٤٥ كيلومتراً خط نار، صاروخين اثنين أحدثا ثمانية انفجارات. وأشارت إلى أنّ الصاروخين سقطا خارج السور الذي يقع بداخله مركز البحث العلمي، وأنّ أحدهما أصاب مقراً للإدارة الصناعية والآخر قافلة نقل أسلحة، بحسب الرواية المستقاة من مصادر في البنتاغون.
وتؤكد هذه المصادر أنّ الرواية الآنفة لكيفية تنفيذ الغارة، توضح السبب الذي جعل الطائرات الإسرائيلية المغيرة، بمنأى عن تعرضها لمجابهة من منظومة الدفاع الجوي السوري الحامية بخاصة لمنطقة دمشق، والتي كانت التقارير العسكرية الدولية، قد أكدت أخيراً أنّها معززة بشبكة رادارات وصواريخ أرض ــ جو روسية حديثة ومتطورة.

خط أحمر ثالث

ومن وجهة نظر أميركية، فإنّ الغارة الإسرائيلية أتت لتؤكد أنّ منظومة الخطوط الحمر التي تفرضها واشنطن على النظام السوري، تحت طائلة التدخل العسكري ضده، أصبحت تشتمل على التزامه تطبيق القرارات الدولية للأمم المتحدة القاضية بحظر نقل الأسلحة لحزب الله. وبحسب المصادر عينها، فإنّ إدارة أوباما صاغت تعريفات واضحة لخطوطها الحمر تجاه الأزمة السورية، الأولّ يتعلق بعدم استخدام السلاح الكيميائي، وأنّه تمّ تكليف البنتاغون بحراسته، بحيث يكون على الجيش الأميركي اجراء ضربة عسكرية ضد النظام إن تأكد استخدامه للسلاح أو تسربت معلومات موثوقة عن اعتزامه فعل ذلك. الخط الثاني يتعلق بضمان عدم مسّ النظام السوري للأمن القومي التركي، انتقاماً من موقف أنقرة الداعم للحراك السوري. وتمّت صياغة مضمون هذا الخطّ الأحمر في اجتماع نيويورك لحلف شماليّ الأطلسي في الصيف الماضي، استجابة لطلب وزير الداخلية التركي أحمد داوود أوغلو، الذي قدّم تقريراً للاجتماع، خلاصته أنّ دمشق تستعمل حزب العمال الكردستاني كرأس حربة صلبة في هز أمن بلده. وبموجب بيان العمليات الذي وضعه «حلف الأطلسي»، فإن أنقرة هي التي تحدّد متى وكيف يتدخل الأطلسي عسكرياً في سوريا لحماية أمنها من تداعيات «عبث النظام السوري» به، وذلك على خلفية الأزمة السورية.
الخطّ الأحمر المستجد تسعى كلّ من إسرائيل وأميركا إلى تعميق حضوره في التعامل الدولي مع الأزمة السورية، ومفاده إجازة قيام إسرائيل بضربات جوية ضدّ أيّ هدف تشتبه في أنه عملية نقل للأسلحة السورية إلى حزب الله، تحت عنوان أنّ هذه العمليات تخالف قررات الأمم المتحدة ذات الصلة، وأنها تشكّل التفافاً غير قانوني عليها. وتفضّل واشنطن التفاهم مع إسرائيل على إبقاء هذا الخط الأحمر غير معلن، بحيث يُنفَّذ مضمونه بوصفها سياسة دولية مضمرة، ولكنها واضحة لجهة مثابرة المجتمع الدولي على تغطية قيام إسرائيل بتنفيذها.
إلى ذلك، لاحظت مصادر دبلوماسية أنّه خلال الفترة الأخيرة طرأ داخل الكواليس السياسية الغربية (باريس ولندن وواشنطن) نظرة مستجدة لتفسيرها لمفهوم النأي بالنفس عن تداعيات الأحداث السورية في لبنان. وأبرز ملامح هذا التغيير يتمثل بادعاء هذه الدول، كما نقلت إلى بيروت، عن مرجع رفيع المستوى في السياسة الخارجية البريطانية، أنّ بلده لم يعد يعتبر أنّ الخطر على لبنان يتمثل بانعكاسات الأزمة السورية عليه، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأمني، بل يتمثل حصراً باستغلال حزب الله لهذه الأزمة لتهريب سلاح سوري نوعي إلى مخازنه في لبنان. وأكد هذا المرجع البريطاني أنّ واشنطن تقف خلف هذا التقدير الجديد للغرب بخصوص إعادة صياغة رؤيته لنوعية المخاطر، التي تواجه لبنان جراء انعكاسات الأزمة السورية عليه.