صنعاء | يذهب اليمن اليوم بقوة إلى الدخول في حالة فجوة طائفية دينية لا سابق لها. فلم يكن اليمن على هذه الحالة من الانقسام الطائفي كما هو عليه اليوم. حال انقسام لم تكن على البال أو الخاطر. ربما هي حال احتقان استمرت طويلاً ولم تعد قادرة على البقاء في حال سكون بعد اليوم. وهذا نتاج لتراكمات حكم طويل المدى جثم على قلب البلاد طوال الأعوام الـ33 الماضية، وبقي يشتغل عليها، كأنها، كما كان يحسب مخزونه الاستراتيجي الذي سيقوم بالاستناد إلى ظهره لو حصل شيء ما يعمل على هزّ عرشه المديد. لكن حصلت ثورة. لم تكن هذه الفكرة، كما يبدو، حاضرة في بال الزعيم السابق الذي كان مُغرماً بلقب الرئيس الصالح على وزن ورثة خلفاء دولة الراشدين. وفكرة الخلود هذه هي ما جعلته يقيم مسجداً ضخماً من أموال الناس البسطاء وعوائد الضرائب كي يُخلَّد، وسمّاه «مسجد الصالح». لكن يبدو أن هذه البلاد التي كانت سعيدة، هذا اليمن يبدو أنه هاضم. اليمن ينسى سريعاً. لا وقت لديه. كأنه على عجلة من أمره ويود اللحاق بجلسات القات اليومية الرتيبة المعتادة، فيما يبقى تأجيل الأمور الأخرى ممكناً. كأنه، هكذا، يود رمي كل شيء وراء ظهره والبحث عن عقاب جديد له، وأن يعمل على تمديد أجل العقاب السابق. هذه حقيقة تقولها الفترة التالية التي لحقت بموعد مغادرة الرئيس السابق علي عبد الله صالح اليمن. لكن، هنا يبدو أن هذا السابق قد نجح في البقاء، ولو من طريق تلك القوى السياسية التي أعلنت أنها قد نجحت في إبعاده عن السلطة.
صحيح. علي عبد الله صالح لم يعد في السلطة. وفي الأيام الأخيرة ظهر كم أنه صار مشلولاً وبلا حول ولا قوة. كأيّ عجوز صار ينتظر يوم وفاته بشوق وقد صار معزولاً تماماً وهو يخاف السفر إلى أي دولة غربية خشية ملاحقته قضائياً جرّاء جرائم حرب قيلت في حقه. تلك الدول التي لديها منظمات مجتمع مدني محترمة ولا تعترف بأي حصانة مُنحت لقاتل خلافاً للقانون الدولي. لكن، مع ذلك لا تزال معه أظفار، هنا وهناك. لا تزال الثورة المضادة تمارس لعبتها بوتيرة عالية.
لكن، هنا سؤال كبير مشروع: أين هي المعارضة السابقة في هذا الوضع وقد صارت اليوم سلطة حاكمة؟
لقد نجح إرث الرئيس الصالح في جعلها في خانة لا يمكن حلاً ما أن يصلها. جعلها هكذا عرضة لموجة الصقيع الباردة جداً التي تحل على اليمن هذه الأيام. نجح الرئيس الصالح هنا في جعل هذه الأطراف تتصارع في خانة ضيقة، أو وفقاً لتعبير الرئيس المصري محمد مرسي، خنقها في «الحارة الضيقة (المزنوقة)». كأنها تفعل شيئاً عيباً. لا تزال تمارس نفس الخطاب الذي يكتفي برمي كل مصاعب اليوم على ظهر النظام السابق. خطاب رتيب لم يقدر على مجاراة مسار الثورة الذي كان حياً ونابضاً.
وهنا، كأن العربة ذاتها تدور مخلفةً ذات القصة، بنفس تلك الخِفة. في القاهرة أو في تونس أو في ليبيا . لكن يبدو أن الكُرة كبيرة في اليمن. كُرة يبدو أنها أكبر من الملعب ذاته. كأنها كُرة ثلج تسير بثقة وتكبر رغم هذا الملعب الذي لم يشهد هذه الكرات الثلجية أو الاستقطابات الدينية من قبل. اليمن إذاً يدخل مرحلة جديدة وغريبة تماماً.
حزب التجمع اليمني الديني للإصلاح، يقف في جهة. يقف على الضد من احتفال الناس بمولد النبي محمّد. منذ زمن واليمنيون يحتفلون بهذا العيد ولم يكن أحد يتكلم، حتى الزعيم الجهادي المتطرف عبد المجيد الزنداني، رئيس «جامعة الإيمان» السلفية. لم يكن هذا الأخير يقول كلمة ما حول هذا الاحتفال، بل كان يشارك فيه بعد عودته من المملكة العربية السعودية وتأسيسه لتلك الجامعة التي التي خرج منها كبار المحترفين الذي شاركوا في قتل نشطاء المجتمع المدني اليمني. وكان أبرزهم الطالب علي السعواني الذي قتل القيادي الاشتراكي جار الله عمر سنة 2003 أثناء إلقائه كلمة في المؤتمر العام لحزب التجمع اليمني للإصلاح وقتها.
لكن يبدو الآن أن الأمر اختلف. هناك بركة من الدماء. بركة وحصيلة كبيرة من القتلى من طرف جماعة الحوثي تلقتها طوال ستة حروب. وهذه جماعة لا تنسى قتلاها في حروب صعدة الست التي كان حزب الإصلاح الديني لاعباً أساسياً فيها بدعم من اللواء المنشق علي محسن الأحمر الذي تعدّه جماعة الحوثي عدوها الأول، ومن خلفه كان علي عبد الله صالح يلعب لعبته متفرجاً ومنتظراً أي طرف سيُنهي الطرف الثاني، وكل هذا من أجل تمهيد الطريق لتوريث اليمن لنجله أحمد.
وعلى هذا السياق، أتت مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي. احتقنت صنعاء. انتشرت أعلام جماعة الحوثي، ومن بينها شعارهم الشهير «الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود». وإليه شعار جديد انتشر بكثافة على كل منطقة في صنعاء عبر رايات خضراء مكتوب عليها «إلا رسول الله». هي المزايدة هنا على حزب التجمع اليمني للإصلاح السني – السلفي. فهؤلاء جاء منهم من عدّ الاحتفال بالمناسبة الدينية بدعة لا يجوز الاحتفاء بها، فيما جاء رد الطرف الآخر المقابل بقوة؛ انتشرت قوتهم في جوانب العاصمة، لم يتركوا بقعة إلا انتشروا فيها. وفي سابقة تشابه التقليد الذي يفعله الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، طلع زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي محدثاً أنصاره في صنعاء عبر شاشة كبيرة.
كل هذا يقول بقادم غير سعيد في طريق أيام اليمن الذي كان سعيداً. طريق الطائفية الذي لن يؤدي إلى غير حرب أهلية لا تمزح أبداً.



استقطابات طائفية

لا تخفى حال الاسقطاب الطائفي والحزبي على حد سواء عن بال شباب الثورة اليمنية. هم يدركون أن هذا هو ما عمل على إبطاء سير الثورة وعدم تقدمها. تقول عفراء الحبوري، وهي واحدة من الناشطين الفاعلين في الثورة، إن حالة الاستقطابات التي تمارسها الجماعات الأصولية تدعو للأسف وتذكرنا بالحرب بين المعسكر الشرقي والغربي التي قسمت العالم إلى قسمين، وجعلت الإنسان مجرد ورقة للإحراق في أي وقت لتحقيق مصالح أنظمة شمولية. وتضيف: «ما نراه الآن على الساحة اليمنية هو نتاج استقطابات تمارسها جماعة الحوثي وجماعة الإصلاح. فتركيزهما الأكثر يتمحور داخل الحالة الشبابية وحول الأقلام الإعلامية، وخاصةً أن الشباب بفعل الثورة أصبحوا أدوات فعل لا فقط مجرد أوراق للضغط او الحرق».
ولهذا تحذر الجبوري من أن «الاستجابة لهذه الاستقطابات من شأنها قتل فكرة الكتلة المدنية التي تتجاوز كل الحواجز الطائفية والمذهبية والايديولوجية».