صنعاء | في الجزء الشمالي الغربي من العاصمة اليمنية صنعاء، تبدو المسافة بين التغيير المنشود لدى اليمنيين وبين الواقع المليء بالعراقيل قريبة وبعيدة في آن. إذا انطلقت شمالاً من أمام بوابة مقر الرئيس عبدربه منصور هادي الواقع على الضفة الغربية من شارع الستين، أكبر شوارع صنعاء، فإنك ستجد نفسك بعد مئات من الأمتار أمام بوابة معسكر الفرقة الأولى مدرع الواقعة على الضفة الشرقية للشارع نفسه. وهكذا ستكون قد قطعت المسافة بين مصدر حزمة القرارات الأخيرة، التي حملت قبل نحو شهر ونصف الشهر تغييرات هامة داخل الجيش، وبين مقر الفرقة التي يشكل قائدها علي محسن الأحمر المعرقل الرئيسي لانتقال القرارات هذه من مربع التغيير النظري إلى مربع التغيير الفعلي. ففي 11 كانون الأول الماضي، أصدر هادي قراراً ألغى بموجبه تشكيلات الفرقة الأولى مدرع الخاضعة للأحمر، إلى جانب قوات الحرس الجمهوري الخاضعة لقيادة نجل الرئيس السابق، أحمد علي عبدالله صالح، ضمن حزمة قرارات هي السادسة في إطار عملية إعادة هيكلة الجيش. لكن حزمة القرارات هذه اصطدمت باعتراض اللواء الأحمر، الذي انشق عن نظام صالح وأصبح قائداً لأنصار الثورة بعد انطلاقها مطلع 2011، ما شكل عائقاً أمام تنفيذ هذه الحزمة وصدور بقية قراراتها، وخلق أزمة غير معلنة بين الرئيس هادي ومرؤوسه الأحمر لا تزال مستمرة حتى الآن. نتائج هذه الأزمة من شأنها أن تقرر المسافة التي يتعين على الرئيس هادي والتغيير الانتقالي الذي يديره قطعها بين النظرية والواقع.
وتمثل هذه الحزمة أهم خطوة على طريق عملية إعادة هيكلة الجيش نظراً لما حملته من تغييرات هامة على مستوى هيكل وبنية وتبعية الجيش اليمني. فقد ألغت تشكيلات الحرس الجمهوري والفرقة مدرع، وأقالت نجل صالح، العميد أحمد علي، من قيادة القوات الخاصة التي تعد قوة ضاربة، وحددت مكونات جديدة للقوات المسلحة كما أعادت رسم الخارطة العسكرية للبلد التي كانت تنقسم إلى خمس مناطق (المنطقة المركزية، الوسطى، الجنوبية، الشرقية والمنطقة الشمالية الغربية) وفق تقسيم جديد من سبع مناطق. ومع ذلك، فهي لم تصدر كاملة، إذ لا تزال هناك قرارات معلقة، كقرارات تحديد المناطق العسكرية وتسمية قادتها، فضلاً عن قرارات إقالة كل من أحمد علي وعلي محسن من موقعيهما في قيادتي الحرس والفرقة الملغيتين. ويبقى صدور هذه القرارات مرهوناً بما ستفضي إليه الأزمة غير المعلنة التي نشبت بين هادي والأحمر إثر صدور القرارات.
ومنذ صدور القرارات، تصدرت هذه الأزمة عناوين فترة الشهر والنصف الأخيرة، في ظل نفي الأحمر وجود أزمة بينه وهادي وتأكيده المستمر على تأييد قرارات الرئيس. وفي هذا السياق، جدد الناطق الرسمي باسم قائد أنصار الثورة، العقيد عبدالله الحاضري، قبل أيام نفي وجود هذه الأزمة، معتبراً أن هناك «حملة مغرضة» تحاول تقديم الأخير للمجتمع المحلي والدولي كمتمرد على هادي، في وقت كان فيه أول المؤيدين لقراراته. واتهم في تصريحات لموقع قناة «الجزيرة.نت» «التيار الإيراني وأذرعه في اليمن وبعض القوى المأزومة» بالوقوف وراء هذه الحملة.
لكن تصريحات الحاضري لم تنف وجود أزمة قدر ما أكدتها. فخلافاً لمقتضيات القرارات الأخيرة، قال إن الأحمر باق في منصبه إلى أن تستقر البلاد. واعتبر أن «المطالبة بإزاحته (الأحمر) من منصبه تعد مؤامرة واستهدافاً لاستقرار اليمن».
وتتمحور أزمة الحزمة السادسة حول اعتراض الأحمر على حل فرقته وتقسيم المنطقة الشمالية الغربية التي يتولى قيادتها بجانب الفرقة الأولى مدرع إلى منطقتين منفصلتين بقيادتين منفصلتين أيضاً، وفقاً لصحيفة «الشارع» التي قالت إن هادي عرض عليه تولي قيادة إحدى المنطقتين أو تولي موقع عسكري رفيع في مكتب القائد الأعلى للقوات المسلحة (هادي) لكنه رفض.
وتجاوزت الأزمة بين هادي والأحمر هاتين النقطتين إلى إصرار الأخير على التدخل في صلاحيات الرئيس، الذي يعد قائده الأعلى بحكم رئاسته للجمهورية. فقد تقدم الأحمر بقائمة ترشيحات بأسماء قادة المناطق السبع لهادي ورفضها الأخير، ويبدو أن هذا شكل السبب الرئيسي وراء عدم تسمية قادة المناطق العسكرية حتى الآن.
سواء في اعتراضه على القرارات أو إصراره على التدخل فيها، يبدو واضحاً أن الأحمر يعطي نفسه موقعاً فوق الرئيس هادي أو بموازاته على الأقل. ويستند في التصرف من موقع كهذا إلى ظرف خاص يرى أنصاره أنه يمنحه أفضلية في المعاملة في مقابل صالح وعائلته والمحسوبين عليهم في الجيش والأمن ويتمثل في تأييده للثورة.
وهذا ما أكده الناطق باسم قائد أنصار الثورة مراراً. فقد قال إن الأحمر رجل ثوري وقف مع الثورة وساندها، ومن «غير الأخلاقي» مساواته مع من وقف ضد الثورة في إشارة إلى صالح ونجله أحمد.
تشبث الأحمر بمنصبه يناقض وعوده المتكررة خلال الثورة بأنه سيغادر منصبه بمجرد مغادرة صالح ونجله أحمد وبقية العائلة مناصبهم، وبأنه سيرفض أي منصب عسكري بعد مغادرتهم. ولجأ اللواء المنشق لتغطية تنصله عن وعوده إلى تفعيل هيئة أنصار الثورة التي عقدت اجتماعاً لها في مقر قيادة الفرقة خلصت بعده إلى أن الثورة لا تزال مستمرة، وجدد الناطق باسم الهيئة التأكيد على «أننا اليوم في مرحلة العبور الثوري»، مستنتجاً أنه «لذلك، لا يمكن الاستغناء عن اللواء الأحمر في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها البلاد».
لكن «الرصيد الثوري» ليس كل ما يستند إليه الأحمر في تصرفه مع هادي من موقع الند لا المرؤوس. وقد لمّح الناطق باسم الأحمر إلى ما قد يشكل العاملين الآخرين اللذين يستند إليهما اللواء المنشق، حين شدد على أن بقاء الأخير في منصبه «مطلب اجتماعي وضرورة سياسية ووطنية. وأيضاً مطلب عربي وقومي».
ويقود هذا إلى التحالفات المحلية والإقليمية التي يتمتع بها الأحمر. محلياً، يربطه تحالف تاريخي وطيد بالإخوان المسلمين، وينظر إليه باعتباره الذراع العسكرية التاريخية للجماعة. وقد شكل الإخوان قاعدته السياسية والثورية التي ارتكز عليها خلال الثورة وبعدها. لكن، رغم أهمية هذه العلاقة القائمة منذ عقود، إلا أنها قد لا تشكل ورقته الحاسمة في البقاء.
الدعم الإقليمي هو الورقة الحاسمة. وقد برز الدعم القطري للأحمر خلال الثورة على المستويين المادي والسياسي. وعبرت الدوحة عن دعمها له علناً من خلال دعوة أمير القطر، حمد بن خليفة آل ثاني له إلى لقاءات خاصة في بلاده حضرها الأول بدون صفة جنباً إلى جنب مع الرئيس ورئيس الوزراء محمد سالم باسندوة. لكن قطر لا تشكل الورقة الإقليمية الأهم في يد الجنرال.
الجدار الإقليمي الصلب الذي يستند إليه هو الدعم السعودي. فالأحمر يعد من أبرز رجالات السعودية، إن لم يكن رجلها الأول في اليمن. وهذا، تقريباً، ما قالته إحدى وثائق «ويكيليكس» حين أشارت إليه باعتباره «مسؤول الاحتياطي الاستراتيجي السعودي في اليمن». ورغم أن الرياض لم تعلن حتى الآن موقفاً واضحاً من عرقلة الأحمر حزمة القرارات الأخيرة، إلا أن الموقف السعودي حاضر في قلب المشهد اليمني على الدوام. فقد نشرت صحيفة «الشارع» معلومات أن مسؤولاً خليجياً رفيع المستوى في الرياض لم تسمه، نصح هادي بالإبقاء على الأحمر بحجة أنه وبلاده لا يزالان بحاجة ماسة إليه.
لكن هل لا يزال الأحمر يشكل فعلياً حاجة ماسة للرئيس والبلاد؟ في رأي كثيرين، بقاء الأحمر يخصم من سلطات هادي كرئيس ويمثل له أيضاً مشكلة كبيرة على مستوى صدقيته وجديته في التغيير، بل وجدية عملية التغيير نفسها. فالأحمر كان شريكاً رئيسياً لصالح في كل فساده وحروبه، ويحمله اليمنيون مع صالح على حد سواء مسؤولية كل ما حدث في بلادهم خلال حكم الأخير الذي امتد قرابة ثلاثة عقود ونصف. بل إن كثيرين يعتبرونه أسوأ من صالح على مستويات عدة، في ظل قناعة شعبية راسخة أن هادي واليمن ليسوا بحاجة لبقاء الأحمر قدر حاجتهما الماسة لتواريه عن المشهد.
وإن كان بقاء الأحمر لا يشكل حاجة ماسة لليمن، فإن العكس قد يكون بالنسبة للسعودية، جارة اليمن الكبرى التي يعتبرها اليمنيون سبباً رئيسياً في عدد من مشاكل البلاد. فهذا الجنرال، الذي قاد حروب صعدة منذ إندلاع شرارتها الأولى عام 2004، يقدم نفسه للرياض كحليف مهم لها في مواجهة حركة «أنصار الله» (الحوثيين) والنفوذ الإيراني في اليمن.
وبحكم موقعه كقائد للمنطقة الشمالية الغربية، يتولى الأحمر قيادة أغلب الألوية العسكرية المنتشرة في المحافظات الواقعة شمالي شمال اليمن بدءاً من الجزء الشمالي للعاصمة صنعاء فضلاً عن تلك المنتشرة في المحافظات المطلة على البحر الأحمر. ومن هنا، قاد الحرب ضد الحوثيين في صعدة الشمالية والمناطق المحيطة بها على مدى 6 جولات في 6 سنوات، وهي الحرب التي شنها تحت ذريعة مواجهة المد الإيراني.
وقد عزف الناطق باسمه، على وتر «الفوبيا الإيرانية» من خلال اتهام طهران وأذرعها المحلية (في إشارة إلى الحوثيين) بالوقوف وراء ما وصفه بـ«الحملة المغرضة» التي تستهدف تقديم الأحمر كمتمرد على الرئيس هادي وقراراته. وزاد أن اتهم طهران بالوقوف وراء «المطالبة بإزاحته من منصبه»، واصفاً إياها بـ«المؤامرة واستهدافاً لاستقرار اليمن».
لكن كل هذه التهويلات، لا تستطيع أن تحجب حقيقة أن الأحمر يقود حرباً باردة ضد قرارات هادي التي ستقلص من نفوذه العسكري ليس فقط عبر إزاحته من الفرقة مدرع، بل عبر فصل المنطقة الشمالية الغربية إلى منطقتين خاضعتين لقيادتين منفصلتين قد يتولى إحداهما: الشمالية على الأرجح. وهذه الحرب الباردة تتعدى عصيان الأحمر للقرارات الى التمرد. فبعد صدور القرارات، شهد بعض ألوية الجيش التابعة للمنطقة الشمالية الغربية التي يقودها الأخير عدة تمردات على قادتها المعينين من هادي انتهت بطردهم.
وفي خضم المناورات التي يقوم بها هادي في مواجهة تمرد الأحمر، يبدو الدعم السعودي هدفه الرئيسي. وقد تكون تأكيدات هادي للدول الخليجية في قمة المنامة قبل فترة وجيزة على تحالف بلاده مع هذه الدول في مواجهة إيران تصب في اتجاه مساعيه لحلحلة الدعم المستمر للجنرال المتمرد على شرعيته، ومن المتوقع أن ملف هذا التمرد تصدر أجندة هادي في زيارته للرياض أثناء عودته من قمة المنامة الإسبوع المنصرم.
لكن تحولاً في الموقف السعودي الداعم لبقاء الجنرال في موقعه في صنعاء والمنطقة الشمالية الغربية التي تشمل صعدة وحدودها مع اليمن عموماً يبقى محل شك حتى في ظل المعلومات المتضاربة عن خضوعه للمراجعة في الرياض. ولأن سياستها حاسمة ومقياس لسياسات اللاعبين الدوليين الكبار في صنعاء، سيشير موقف الرياض من جبهة المعرقلين الجدد لقرارات الهيكلة وعلى رأسهم الأحمر إلى طبيعة التغيير الذي ترعاه وتنشده مع المجتمع الدولي في اليمن: هل يريدون تغييراً ملموساً وإن في مستوياته الدنيا أم تغييراً محدوداً ومقنناً لأقصى حد ونظرياً غالباً بما يضمن بقاء اليمن بلداً هشاً وغير مستقر؟
وبنفس القدر، سيشير هذا الموقف إلى طبيعة ودرجة السلطة التي يريدون لهادي ممارستها في موقع الرئاسة: هل سيتسنى له الوقوف في قلب الصورة كرئيس فعلي أم أنه سيبقى في جانب كبير من الصورة مجرد رئيس نظري في ظل جنرال يتصرف كرئيس فعلي؟



لقاء بن عمر

بانتظار حسم تمرد اللواء المنشق علي محسن الأحمر، التقى الأخير بمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر. اللقاء تخلله مناقشة سير العملية الانتقالية ومراحلها القائمة على أسس المبادرة الخليجية ومدى التزام الأطراف المعنية بها بالشكل الذي يحقق آمال وتطلعات الشعب اليمني. كما ناقش الطرفان سير عملية التحضير للحوار الوطني الشامل. وحسب موقع «انصار الثورة» المقرب من اللواء محسن أكد الأخير «موقفه الدائم واستعداده الكامل لتنفيذ ما تملي عليه القيادة السياسية ممثلة برئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة المشير عبد ربه منصور هادي وما تقتضيه مصلحة الوطن العليا»، وهو ما ينتظر اليمنيون أن يترجم إلى أفعال وليس مجرد أقوال يجاهر بها الأحمر في العلن ويعمل على تعطيلها في السر.
(الأخبار)