أدرج قادة السعودية في الآونة الأخيرة عدوانهم على اليمن في المرتبة الثانية أو الثالثة من مراتب اهتمامهم الخارجية، مبرزين اهتمامهم بالشأن السوري كأولوية لما له من تداعيات. وقد ظهر تركيز الرياض الشديد على التطورات الميدانية السورية مع متابعة آثارها السياسية، وكأن تلك التطورات باتت تشكل تهديداً وجودياً على أمنها ومنظومة الحكم وامتداداته.
وانطلقت السعودية من ترتيبها لقضايا المنطقة من «الأنباء» عن قرب «تحرير صنعاء»، وعن أن قوات ما يسمى «الشرعية» اخترقت دفاعات الجيش و«اللجان الشعبية» في منطقة فرضة نهم شرقي محافظة صنعاء، معتبرةً أن الساعة قد دقت بإيذان عودة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي إلى العاصمة صنعاء لمزاولة نشاطه وممارسة صلاحياته. وظنت الرياض التي ترى أن أرض اليمن الرحبة لم تعد تتسع لقادة «أنصار الله» ومقاتليهم ولا للجيش اليمني ولا لحزب «المؤتمر الشعبي العام»، مروجةً عبر وسائل إعلامها بأن هؤلاء تقاطروا إلى السفارة الإيرانية في صنعاء للحصول على أذونات للهرب إلى طهران أو بيروت.
حتى إن الاطمئنان والثقة بحتمية «النصر» السعودي المتخيل في اليمن، جعل الكتّاب والمقربين من دوائر القرار لآل سعود، يقدمون أخيراً «النموذج الخليجي» لهذا البلد، كأمثولة في «الديموقراطية والحكم العادل والرشيد»، على خلاف النموذج «الإيراني الفارسي» القائم على «الهيمنة والتسلط»، وفقاً لهؤلاء. ومن فيض الجود والعفو والسماحة عند هؤلاء الكتّاب أنهم «وافقوا» على مشاركة «أنصار الله» وحلفائهم بالحياة السياسية اليمنية في المرحلة المقبلة، إن هم أرادوا المشاركة.
وفي إطار الشعور نفسه بالاطمئنان لدى المرتزقة اليمنيين، أطلق هؤلاء العنان لمخيلاتهم بعيداً في رسم سيناريوات ما بعد «التحرير» وتقاسم السلطة، والانتقام من «الانقلابيين» وقتل «السلاليين» متوعدين بالمصير الأسود لكل من ساعدهم وساندهم.
من جهته، واكب الإعلام الخليجي كالعادة هذه الأنباء بسرعة فائقة، إذ هرعت فضائياته إلى التغطية العاجلة والمباشرة من الأرض، وذهب التنافس بينها للحصول على حصرية النقل المباشر كأول المبشرين بـ«النصر» من شارع الستين في العاصمة صنعاء!
لكن سرعان ما ذهبت «السكرة»، فالجغرافيا اليمنية المعقدة، من تضاريس الجبال إلى التباب والأودية، قد تسمح بحصول خرق في مكان أو في آخر، بمساعدة مئات الغارات الجوية للعدوان على مساحة ضيقة، كما حصل في فرضة نهم، غير أن الجغرافيا نفسها التي يعرفها الجيش و«اللجان» مثلما يعرفون أسماءهم، سرعان ما ستصبح لعنة على الغزاة، كما كانت على مر التاريخ صامدة بوجه الطغاة والطامعين.
رد الجيش و«اللجان الشعبية» لم يقتصر على معالجة الخرق في فرضة نهم، إذ تطور الوضع بشكل دراماتيكي مشكّلاً خللاً في بنيان خطوط الدفاع على امتداد جبهات دول «التحالف». فقد تساقطت سريعاً سلسلة جبال الإرسال في مديرية ذوباب غربي محافظة تعز المشرفة على باب المندب، مع العلم بأن إمكانية السيطرة على المدينة متاحة للجيش و«اللجان»، إلا أن توقفهم في سفح السلسلة يأتي لضرورات دفاعية. وعلى جبهة مأرب، سقطت منطقة جدعان الاستراتيجية، وأصبح الجيش على بعد كيلومترات عدة من المدينة. كذلك سيطر الجيش في تعز على جبل الشبكة الذي يمثل موقعاً حاكماً على المدينة. أما تكرار الهجمات للقوات السعودية ومرتزقتها على ميدي من معبر حرض الحدودي، فقد باءت جميعها بالفشل. وعلى الحدود، استمرت عمليات الاستنزاف والسيطرة على المواقع والنقاط العسكرية السعودية من قبل الجيش و«اللجان الشعبية»، وتوسعت أخيراً لتطال المواقع بعد الربوعة في عسير.
أما المناطق الجنوبية التي يسيطر عليها «التحالف»، فتتفاقم فيها الفوضى ويثبت «القاعدة» و«داعش» نفوذهما، ولا تجد «الشرعية» مكاناً آمناً تحمي فيه رئيسها ورئيس وزرائها والوزراء، حتى إن القادة المسؤولين عن الأمن في الجنوب عموماً وعدن خصوصاً، عاجزون عن حماية بيوتهم. وتلاحق الاغتيالات هؤلاء، فيما يتعمد إلى تجهيل الجهة المنفذة خلف تلك العمليات الأمنية، وقوفاً عند رغبة السعودية. حتى إن المبعوث الدولي إلى اليمن اسماعيل ولد الشيخ لم يعد قادراً على التستر على الوضع المتفاقم في مناطق سيطرة «التحالف»، وهو يصرّح أمام ضيوفه علناً بأن الجنوب بات عملياً تحت نفوذ «القاعدة» والمنظمات المتطرفة الأخرى، حتى إنه يقول إن القصر الرئاسي في المعاشيق ليس كله في يد «الشرعية».
ضرب اليمن بشعبه وقيادته وجيشه ولجانه مثلاً في الصمود والتضحية ونجح في امتحان «الصبر الاستراتيجي»، وسجل في صفحات تاريخه الأبيض صفحة أخرى مضيئة. ومن سماحته، لقد أبقى اليمن للغزاة إمكانية «التلذذ بالأحلام» وإطلاق المخيلات الخصبة، قبل أن يقعوا في شرّ أوهامهم.