على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، اتسمت الأجواء الانتخابية في إسرائيل بأشياء عدة، إلا أن الخيط الواصل على طول حركة المد والجزر الانتخابي كان التسليم لدى كل القوى المتنافسة بأن الحكومة المقبلة سيشكلها بنيامين نتنياهو رئيس قائمة «الليكود بيتنا»، التي ستحصل على أعلى عدد من المقاعد بحسب كل استطلاعات الرأي.
ويكاد يكون من المسلمات أن نتنياهو، عندما أعلن في التاسع من تشرين الأول الماضي تقديم موعد الانتخابات ــ عازياً السبب إلى عجز الائتلاف الحاكم عن التوصل إلى اتفاق على إطار الموازنة للعام المقبل ــ كان يراهن على النتيجة المسبقة للانتخابات. وهي استمرار حكمه مع بعض التعديلات التي رجّح أن تكون لمصلحته. ومن المؤكد أن هذا الرهان كان له ما يستند إليه: خصوم ضعفاء مشتتون عديمو التجربة ولا أحد منهم يشكل بديلاً واقعياً له في نظر الجمهور.
بعد ذلك بأسبوعين، أقدم نتنياهو على مناورة انتخابية لامعة، عدّها المحللون المسمار الأخير في نعش آمال خصومه باستبداله. في 25 تشرين الأول، أُعلن توحيد لائحتي الليكود و«إسرائيل بيتنا»، اللذين يمتلكان معاً 42 مقعداً في الكنيست الحالي، ضمن قائمة واحدة أطلق عليها «الليكود بيتنا». القائمة التي تنبأت لها الاستطلاعات بحصاد انتخابي قوامه 45 مقعداً أوجدت فجوة عملية كبيرة مع بقية القوى المتنافسة، ترتّب عليها تسليمٌ سيكولوجي لدى هذه القوى باليأس من إمكان جسر هذه الهوة، ما أدى إلى استقرار وعي الناخبين على حقيقة أن رئيس الحكومة المقبل سيكون بنيامين نتنياهو، وأن لا شيء سيغير هذا القدر.
إلى هنا تنتهي أوجه الشبه بين الانتخابات الحالية وفترة ما قبل «الانقلاب». فالإقرار الضمني بالنتيجة المسبقة للانتخابات على مستوى الحزب الفائز أفرغها عملياً من مضمونها السياسي وجعلها أقرب إلى تنافس شخصي بين مرشحين، ولا تتصل بالبرامج السياسية التي بقيت في الظلال المعتمة بعيداً عن حلبات السجال. وليس أدل على هذا الواقع امتناع حزب الليكود مثلاً عن صياغة برنامج سياسي يخوض الانتخابات على أساسه واعتبار الأمر من قبل بعض مسؤوليه «وثيقة عفا عليها الزمن وعديمة المبرر في عصرنا». ولا تقلل حقيقة أن الخلافات الداخلية حول المواضيع الأمنية والسياسية، وعلى رأسها رغبة نتنياهو في عدم التورط في تحديد موقف واضح من الدولة الفلسطينية التي يوجد بشأنها اعتراض واسع داخل صفوف حزبه، من أهمية غياب البرامج السياسية عن صدارة المشهد الانتخابي؛ إذ يبقى أن الناخبين سيدلون بأصواتهم من دون أن تكون لهم أي فكرة عن موقف هذه القائمة في القضايا الساخنة على جدول الأعمال الإسرائيلي، مثل مستقبل العملية السياسية مع الفلسطينيين والأمن والاقتصاد وغير ذلك من الاستحقاقات الاجتماعية. ولا يعوض عن هذا الغياب الخطاب العام لنتنياهو حول إنجازاته في السنوات الأربع الأخيرة من «الاستقرار الحكومي» إلى «تعزيز الأمن» و«تقوية الاقتصاد».
حتى المحاولات البائسة التي بذلتها القوى المنافسة لنتنياهو من أجل إعطاء جوهر حقيقي للانتخابات عبر جر النقاش باتجاه الدائرة الاقتصادية والسياسية كان مصيرها الفشل. فحزب العمل، الذي جعل كل حملته الانتخابية متمحورة حول القضايا الاجتماعية، بقي يصرخ في الفراغ، فيما بدت الخطة السياسية التي طرحتها تسيبي ليفني، زعيمة حزب «الحركة»، حول تحريك عملية التسوية خطوة في اللامكان. وهذا كان أيضاً حال يائير لبيد، رئيس الحزب الناشئ «يوجد مستقبل»، الذي لم يطرح على طاولة البحث أي جديد، باستثناء تركيزه على ضرورة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية على اليهود الأصوليين (المعروفون بالحريديم).
إلا أن الانتخابات الإسرائيلية الراهنة ــ على رتابتها ــ لم تخلُ من ظواهر لافتة مطعّمة بدلالاتٍ مهمة على مستوى فهم المزاج الذي يحكم الناخب الإسرائيلي وعموم جمهور دولة الاحتلال.
أولى هذه الظواهر هي غياب موضوع السلام ــ الذي ظل لنحو عقدين محور النقاش العام في إسرائيل ــ عن الخطاب الانتخابي بشكل شبه كامل. فمنذ انتخابات عام 1992، كانت العملية السياسية مع الفلسطينيين في مركز كل حملة انتخابية للأحزاب الكبرى في إسرائيل، بما في ذلك الليكود الذي ــ برغم موقفه المتحفظ إزاءها ــ وجد نفسه مضطراً إلى أن يركب موجتها، لكن من باب الادعاء أنه الأقدر على صنع السلام بالشروط المناسبة لإسرائيل. ويذكر المتابعون كيف أن الشعار الانتخابي لأرييل شارون في إحدى حملاته الانتخابية السابقة كان «فقط شارون سيجلب السلام»، فيما تظلل نتنياهو بشعار «نتنياهو ــ صناعة السلام الآمن».
أما الآن، فيبدو السلام غير ذي صلة بالنسبة إلى معظم المتنافسين، بدءاً بـ«الليكود بيتنا» الذي تتزايد فيه المواقف المعارضة على صيغة «دولتين لشعبين»، مروراً بحزب العمل الذي يتلطى، كما أشير، وراء الأجندة الاجتماعية، وصولاً إلى حزبي «الحركة» و«يوجد مستقبل» اللذين يتطرقان إلى هذا الموضوع في ما يشبه الخجل، مفضلين تناوله بعبارات لطيفة مثل «التسوية السياسية».
الظاهرة الثانية التي أبرزتها الانتخابات هي «تهرّب» الأحزاب اليهودية كافة ــ باستثناء «ميريتس» ــ من وصمها بالصبغة اليسارية. لا يسري ذلك فقط على حزبي «الحركة» و«يوجد مستقبل»، اللذين حرصا على ألا «يُتّهما» باليسارية وجهدا لتثبيت هويتهما الوسطية ــ القريبة من اليمين ــ في وعي الناخب، بل أيضاً على حزب العمل المعروف تاريخياً بتموضعه في خانة «اليسار الوسطي» على الصعيد السياسي وبحمله لراية الاشتراكية على الصعيد الاجتماعي الاقتصادي. رئيسة الحزب، شيلي يحيموفيتش، كانت حاسمة في تنصلها من صفة اليسار لحزبها حين قالت: «نحن لسنا يساراً» في سياق مغازلتها لأصوات معسكر الوسط ومتسربي حزب كاديما المتحلل.
الظاهرة الثالثة والأهم هي صعود نجم «المتدينين القوميين» وتنامي حضورهم السياسي والشعبي. ومن المعلوم أن هذه الشريحة من المجتمع الإسرائيلي ــ التي يطلق عليها البعض أصحاب القلنسوات المطرزة، نسبة إلى نوع القلنسوة التي يضعونها على رؤوسهم ــ تمثل بنحو رئيسي جمهور المستوطنين ذي الميول اليمينية المتطرفة. ولا يقتصر التعبير عن قوة هؤلاء المتصاعدة على التزايد المطّرد للحظوظ الانتخابية لـ«البيت اليهودي» بزعامة نفتالي بينيت، بل يتعدى إلى انتشارهم المتسع داخل حزب الليكود نفسه، فضلاً عن تسللهم إلى أكثر من مؤسسة وراء الخط الأخضر كانت تعد في الماضي من قلاع الوسط واليسار العلمانيين، مثل محكمة العدل العليا، ورئاستي الشاباك ومجلس الأمن القومي، وسلك القيادة في الجيش، فضلاً عن السلك الأكاديمي (الاعتراف بمعهد بار إيلان الموجود في مستوطنات الضفة كجامعة) واقتحام دائرة السيطرة على الإعلام من خلال شراء صحيفة «معاريف». يعكس هذا الواقع سيرورة اجتماعية بالغة الأهمية في إسرائيل لم تصل إلى مآلاتها بعد، إلا أنها أكيدة الوجهة. وهذه السيرورة عبارة عن عملية استبدال للنخبة الأشكنازية العلمانية المتماهية مع الوسط واليسار السياسي، بنخبة أخرى ذات طبيعة إيديولوجية من حيث انتماؤها إلى اليمين القومي المتدين، رغم أنها لا تزال أشكنازية الأصول.
من هنا، يمكن فهم كيف أن التنافس الانتخابي الأقوى كان في الحقيقة داخل معسكر اليمين نفسه ما بين الليكود من جهة، والبيت اليهودي من جهة أخرى، حيث سعى الأول ليبدو أكثر «استيطانياً»، فيما عمل الثاني كي يتجاوز حدوده الفئوية ويقدم نفسه كحزب «عموم إسرائيلي» لا يخفي طموحاته الزعامية على مستوى القيادة.
وأياً تكن حال الانقسامات الانتخابية الداخلية، فإن المفارقة الأهم تبقى أن الانتخابات الأقل استحضاراً للسجال السياسي الجوهري في تاريخ إسرائيل تجري في ظل جملة من الاستحقاقات التي يجمع الإسرائيليون على أنها من الأكثر تأثيراً بالمعايير الاستراتيجية.
ويمكن المرء أن يبدأ بالعملية السياسية التي ثمة مؤشرات على أنها ستشهد نزعها الأخير خلال فترة الحكومة المقبلة التي سترتكز على الأرجح إلى ائتلاف يميني بالغ الوضوح وإن جرى تطعيمه، كما هو متوقع، بألوان وسطية غايتها كسر حدة تطرفه أمام العالم. وفي ضوء ائتلاف كهذا، سيكون الحديث عن وقف الاستيطان أو تفكيك بعض بؤره ضرباً من الوهم السياسي، فضلاً عن تصور إمكان التنازل عن أراضٍ في الضفة الغربية والانسحاب منها لمصلحة رؤية الدولتين. وفي السياق الفلسطيني أيضاً، من المرجح أن تجد حكومة نتنياهو المقبلة نفسها أمام انتفاضة زاحفة في ضوء المعطيات التي تؤكدها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن حال التململ والتصعيد العنفي التي بدأت تشهدها المناطق المحتلة. وفي الدائرة الإقليمية القريبة، تواجه إسرائيل تحديات لا سابق لها، سواء على مستوى الوضع السوري وما ينطوي عليه من مخاطر تفكك الدولة هناك، وما يستتبعه ذلك من القلق بشأن مصير ترسانات الأسلحة النوعية وغير التقليدية، أو على مستوى التطورات الأردنية التي تثير علامات استفهام حول استقرار النظام فيه، وصولاً إلى مصر التي تحولت من حليف استراتيجي إلى عدو محتمل في ظل حكم الإخوان والتهديد الذي يمثله على «كامب دافيد».
كل هذا ولم تصل النوبة بعد إلى إيران التي رحّل نتنياهو التعامل مع ملفها النووي حتى الصيف المقبل وقدم بهذا الشأن التزاماً واضحاً أمام العالم والجمهور الإسرائيلي.
وإذا عرّجنا بالنقاش إلى الوضع الاقتصادي الإسرائيلي الذي يُسجل عجزاً ضخماً يجعل من المحتوم على أي حكومة رفع الضرائب وتقليص النفقات، بما في ذلك الاقتطاع من التقديمات الاجتماعية، فإن ذلك يعيد الأمور إلى المربع الأول، أي إلى قرار تقديم موعد الانتخابات الذي دفع إليه تعذر الاتفاق على موازنة تعالج العجز القائم. مؤدى ذلك، أن جل ما ستنتجه الانتخابات في إسرائيل هو المزيد من نفس الشيء: تكريس زعامة نتنياهو، وتنامي قوة اليمين.



«الحمد لخلاصنا»

في السادس عشر من شهر تشرين الأول الماضي، رحبت صحيفة «هآرتس» في افتتاحيتها بقرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تقديم موعد الانتخابات، منتقدةً أداء الكنسيت في ولايته الثامنة عشرة.
ومما جاء في الافتتاحية: «تنافس الأعضاء في كتلة الليكود، وعلى رأسهم الرئيس زئيف الكين، مع النواب من إسرائيل بيتنا، البيت اليهودي والاتحاد الوطني في مبادرات التشريع والهذر الذي غايته سحق الأقليات الضعيفة، وعلى رأسهم عرب إسرائيل، منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان. وقد وضعوا لأنفسهم هدفاً هو تقليص حرية التعبير والاحتجاج وفرض الرعب على وسائل الإعلام».
وخلصت إلى القول: «مع نهاية ولاية الكنيست الـ 18 ينبغي القول: «الحمد لخلاصنا» والتمني في أن الجمهور سينتخب في كانون الثاني كنيست ديموقراطياً، نزيهاً وناجعاً».