المخيم خارج المكان
أحمد الزعتر وعبدالله الإرهابي، صنوان لا يفترقان في شعر محمود درويش ومظفر النواب. وإن كان الأول قد قضى في وضح النار وهو يسرب من بين أصابعه بردى، فإن الثاني لا يزال يحمل قاسيون على كتفيه الفلسطينيتين رغم جسده النحيل وشعره الممتلئ بغبار الحرب وتراب المنازل المدمرة. قد يجد الفلسطيني متّسعاً من الوقت في الحياة ليبحث في ذاكرته عن بقايا البندقية التي صدئت في مخازن السلاح، وإن لم يجدها فإنه لن يوفر حرباً قريبة ليكون له فيها نصيب، وقد يكون من باب الهزل أن نقول جملة تتردد على ألسنة الشعب الفلسطيني عندما يتفاخرون «إذا بتفتح مخ الفلسطيني بتلاقي بارودتين عم يتخانقو». نعم قد يكون هذا الكلام صحيحاً، إذ لم يخل جيل فلسطيني من نكبة أو نكسة أو حرب ما، والأكثر هزلية أن يكون لكتاب ما عنوان يقول «الفلسطينيون من حرب إلى حرب». ومن حرب إلى حرب، ستجد الدم الفلسطيني حاضراً كله أو بعضه، من فلسطين إلى الأردن ولبنان بكل حروبها، فالعراق واليوم في سوريا.
من المجحف القول إن الفلسطيني يعشق الحرب، ومن الأصعب أن يُفهم عشقه للحرية على أنه عشق للحرب. الحرية التي يريدها الفلسطيني لا تتجزأ. فهو يريد حريته وهو لاجئ، ويريد حريته حتى يعود، ويريد حريته عندما يعود، بل وأكثر من ذلك فإن الفلسطيني يكافح لكي تعمّ الحرية بلاده التي لم يرها بعد، فيحارب العنصرية في «إسرائيل» لينال من تبقّى حريتهم، ويحارب الأنظمة العربية لتنال عروبته حريتها، وفي منفاه يقارع منظمة التحرير وفصائلها إن هم يوماً زلّوا واغتصبوا شيئاً من حريته، أو حتى أهملوا حقه فيها، فكيف إن هم صادروها؟!
في كل ما سبق بديهيات يعيشها الفلسطيني أينما حل وأنَّى رحل، وعلى هذه البديهيات يبني حياته من عمل وعائلة ومستقبل مجهول، ويبقى كل شيء لديه مؤقت إلى حين عودته الأخيرة من سفر الخروج. لذا لا أستغرب أن يكون إدوارد سعيد يحمل كامل متاعه كلما انتقل من بلد إلى آخر، فهو يعيش «خارج المكان»، وكل شيء هو ملكه إلى أن يعود ويستقر في مكانه الأول والأخير والوحيد، لأنه لم يسمع حتى الآن سوى ندائه الأول، ولم يرَ أفقاً قد خلق سوى من جزمة الفدائي، وكل مكان غير موطنه هو خارج المكان. البديهيات التي سقتها هي وقائع، ولربما هي التي جعلت منه في يوم من الأيام المحارب الأسطورة. أسوق هنا جزءاً من مذكرات خالي المؤرخ الراحل علي رضا النحوي عندما كان يؤدي خدمته الإلزامية خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان، إذ يصرخ الضابط السوري في وجه عناصره «وزعوا اللباس العسكري أولاً على الفدائيين الفلسطينيين، فهم يستحقونها أكثر، لأنهم أسطورة هذه الحرب». بديهيات ووقائع لا تنفي عشق الفلسطيني للحياة على الرغم من كل ما يكتنفها من حروب مليئة بالموت والدمار، إذ يسرق لحظة الفرح من جبال الأحزان التي أثقلت كاهله، وهو إن جاءه الموت يستقبله ضاحكاً، وفي هذا قصص وحكايات تروى. الأمل، هو الخصلة الأشد تأصلاً في الذهنية الفلسطينية، والتفاؤل أهم مصادره. ففي ذروة الألم والدمار والتشرد ترى نازحاً من مخيم اليرموك يدير التلفاز على قناة فلسطين، يريد أن يعرف ماذا يجري هناك. فهنا أيضا خارج المكان، والمخيم الذي يشوبه الدمار اليوم ليس وطناً نهائياً، إذ يدرك الفلسطيني في قرارة نفسه أن المخيم مرحلة إلى زوال، وأن لا مكان نهائياً له سوى هناك خلف الحدود في مساحة تبلغ تسعة كيلومترات وسبعة وعشرين ألف كيلومتر مربع، حيث سيمارس حريته دونما خشية من قيد يمتد من المحيط إلى الخليج، وحيث هناك يستطيع أن يلعن النظام ويسقطه فلا يقول له أحد ابقَ على الحياد أو انأَ بنفسك. ظل أخيراً أن أقدم رؤيتي لعشق الفلسطيني للثورات. قد لا يكون الأمر بحاجة إلى شرح. فالذي ذاق حلاوة الثورة يشتهيها لأخيه في العروبة، لما فيها من رومانسية وعشق. لذا يرى الفلسطيني أن في جعبته واجباً أخلاقياً لا ينفد من دعم الشعوب لإسقاط أنظمتها، ولهذا السبب وبهذه الروحانية، يكون أحمد الزعتر شقيقاً للزعتري الهائم اليوم على بحيرة من بؤس الإنسانية، ويبقى عبدالله الإرهابي لابساً حذاءه ينتظر أن يضرب بكعبه ليتفجّر تاريخ عقارب.
قبل أيام قليلة، حضر المؤرخ الفلسطيني غسان الشهابي إلى بيروت، وكان قد شاب شعره أكثر. على عجالة تحدثنا عن مخيم اليرموك وما يجري فيه من أحداث. لم يكن كل ما يكتنفه من حزن وأسى يخفي ابتسامته الفلسطينية السمراء. عانق ابنته وهو يحدثني وقال لي: قد تكون هذه المبادرة جيدة. إنها محاولة في كل الأحوال. كان يعتقد أن المبادرة التي يحملها لتفادي تحويل المخيم إلى حرب مخيمات ثانية هي محاولة ممكنة، ومازحته قائلاً حاول أن تتفادى رصاص القناص. ضحك وضحكت واتفقنا على أن يعود إلى بيروت ونعقد لقاءات كثيرة ونضع خطة للعمل من أجل الفلسطينيين في سوريا. لم أكن أعلم أن المزاح يقتل. ولم أكن أعلم أن أصعب ما في الوجود هو أن تنتظر شخصاً لن يأتي. أحمد كوسا، غسان الشهابي عليكما ومنكما ولروحيكما السلام، وليبقَ عبدالله الإرهابي حيّاً يغالب ألا تمرّ عجلة التاريخ فوق جسده.
نضال بيطاري