حملت الأسابيع الماضية مواقف وزيارات دولية بين عدد من الفاعلين الرئيسيين في الشرق الأوسط، كشفت عن اتخاذ المنافسة بين المشاريع السياسية الإقليمية أشكالاً جديدة، ظهرت مصر بوصفها مدخلاً رئيسياً لها. شواهد هذه المنافسة كان من أهمها زيارات ومقابلات عصام الحداد، مساعد الرئيس لشؤون العلاقات الخارجية والتعاون الدولي مع عدد من المسؤولين الأميركيين والإماراتيين، فضلاً عن أتراك وقطريين وإيرانيين خلال فترة وجيزة.
الهدف كان إما احتواء أزمات أو توثيق علاقات أو تبني مواقف وتفاهمات. يضاف إلى هذا المشهد زيارة وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي، ووزير خارجية قطر حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني لمصر في فترات متقاربة، ومنح قطر مصر 5 مليارات دولار، من بينها 4 مليارات كوديعة ومليار دولار كمنحة، إضافة إلى الرغبة في زيادة حجم الاستثمارات القطرية في مصر لتصل إلى 23 مليار دولار، مع الدعوة إلى إنشاء مشروعات قطرية صناعية عملاقة في مناطق حيوية، كالسويس وبرج العرب وبور سيعد.
كذلك بات التقارب المصري التركي الاقتصادي والسياسي أمراً لا تخطئه عين المتابعين؛ إذ بلغت الزيارات الرفيعة المستوى أكثر من 8، على صعيد قطاعات عديدة بين البلدين، بينها الإعلام والتموين والخارجية والرئاسة، فضلاً عن المناورات البحرية المشتركة على مدى العامين الماضيين، وإفصاح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن رغبة تركيا في زيادة استثماراتها في مصر إلى 10 مليارات دولار خلال 5 سنوات، بدلاً من مليار ونصف مليار دولار حالياً.
من وسط هذا التدافع الشديد على مصر، يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات، أولها اتجاه قطر إلى محاولة اقتناص الزعامة الخليجية من باقي دول مجلس التعاون. وتستند قطر إلى القوة الناعمة ممثلةً في قناة الجزيرة وقناة الجزيرة «مباشر مصر» وامتلاكها تفاهمات قديمة – جديدة مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر على عكس العلاقة المتوترة بين الإخوان وسائر دول الخليج.
أما الدور التركي في الحالة المصرية، فبات منافساً للدور القطري على المستويين الاقتصادي والإعلامي. فغالبية الأنشطة الاقتصادية الكبرى لكبار رجال الأعمال الإخوان المسلمين، مثل حسن مالك، هي مع شركاء أتراك. أما على المستوى الإعلامي، فجاء الصعود المفاجئ والقوي لوكالة أنباء الأناضول التركية في الفترة الماضية، وهي حديثة عهد في منطقة الشرق الأوسط، حيث قررت التوسع في إنشاء مكتب في القاهرة يكون مركزاً رئيسياً لها، ويصدر لأول مرة في تاريخ الوكالة نشرة باللغة العربية. وقد أضحت في بعض الأحيان بديلاً لدى كثير من الصحف المصرية من وكالة «أنباء الشرق الأوسط» التي تمثل المصدر الرئيسي لأخبار «الدولة المصرية»، ما مثل علامة فارقة في التوجه الإعلامي للنظام الحاكم في مصر. فوفق تصريحات مصدر مهم من داخل الوكالة المصرية لـ«الأخبار»، يوجد «تهميش يحدث للوكالة لمصلحة الأناضول، نظراً إلى التقارب بين النظامين، رغم أنه معروف عن وكالة أنباء الشرق الأوسط عرفاً أنها جزء شبه ملتصق بمؤسسة الرئاسة، وكبار صحافييها ينالون صفات شبه دبلوماسية في مراحل متقدمة من عمرهم المهني، وهي التي تضفي صداقية على أخبار الدولة».
الصحافي المصري أحمد طارق، عزا هذا التقارب إلى رغبة تركيا في الاتجاه القوي نحو المشروع الشرق أوسطي لتثبت لأوروبا أنها دولة قوية ومتحكمة في مجريات الأحداث، ما يجعل الاتحاد الأوروبي يعاود التفكير في احتوائها بالانضمام للاتحاد، أو لترسخ تركيا لها دور سيادي إقليمي، من بوابات خلفية في منطقة الشرق الأوسط إن فشل مشروع الانضمام للاتحاد الأوروبي.
هذه المتغيرات لم تخطئها العين الإيرانية، التي تسعى جاهدة أيضاً إلى التقارب مع مصر ورفع حالة الجمود بين البلدين بشتى الوسائل. ويأتي هذا السعي في ظل إدراك إيران للمشروع التركي، الذي هو بالأخير يشكل مع نظيره المصري، مشروعاً سنياً يقلل من فرص المشروع الإيراني الذي لا يكف مناهضوه عن التذكير بأنه مشروع قائم على أساس «شيعي»، بما يقلل من التعاطف معه في الشارع العربي.
وإيران، أيضاً، لم تغفل الدور الإعلامي، فتوسعت في إنشاء مكاتب إعلامية لقنوات إيرانية بالقاهرة، بل امتد بعضها إلى الإسكندرية. وكشف أحد مراسلي القناة الأولى الإيرانية لـ«الأخبار» أن جميع التوجيهات القادمة من طهران، توصي بتجاهل وتجنب ذكر تركيا في التقارير الإخبارية على لسان الضيوف، ما يؤكد الخوف الإيراني من المشروع التركي.
أما الولايات المتحدة الأميركية التي يعنيها بالمقام الأول، تأمين مصالحها ومصادر نفطها في الخليج والمنطقة، إضافةً إلى المحافظة على أمن إسرائيل وتجنب التورط في المزيد من الحروب، فهي من جانب ترضى بوجود أنظمة إصلاحية حتى لو كانت ذات خلفية إسلامية، مع تعميق مبدأ التحالف مع الشركاء «البراغماتيين» من غير الإسلاميين لتحافظ على أوراق اللعبة في يدها. لذا فإنها ترفض التدخل في قضايا الشأن الداخلي الخليجي، بينما تسعى إلى عدم إحداث تغيير نوعي في بنية الأنظمة الساقطة في دول الربيع العربي. وتشير بالملف الاقتصادي والدعم الدولي للمتصارعين على كرسي الحكم في تلك البلدان سواء من العلمانيين أو الإسلاميين. وهو ما يظهر تأرجح النظام الأميركي بين المعسكرين في الشارع المصري (الإسلامي والعلماني)، حتى وإن كانت تفاهماته مع الإخوان بوصفهم الفاعل الأكبر في الأمر الواقع والأكثر شعبية حتى الآن بصورة أكبر.
وأثناء تشكل هذه الخريطة للسياسة الخارجية، تخشى الولايات المتحدة جملة من الأمور، بينها مشروع تركي توسعي تكون مصر أداته، وأن تسوء علاقته بإسرائيل يوماً بعد يوم. ويتضح أن الولايات المتحدة ترغب في طمأنة إسرائيل عبر إحاطتها بأنظمة إصلاحية أو نخب متأمركة، وكلا الحلين يضمن عدم تصاعد فكرة الثورة وإدخال النظم الجديدة بيت الطاعة الأميركي عبر أذرعها الاقتصادية ممثلة في البنك الدولي وصندوق النقد، أو إلحاقها بالتبعية السياسية لضمان الاستقرار في ظل أوضاع مضطربة تعيشها المنطقة.