دمشق | يكفي أن يأتي المرء من بيروت عائداً إلى دمشق، وأن يتحدث عبر الهاتف في أيّ شأن سياسي، فيلفظ كلمة تستفز القوى الأمنية، («الائتلاف» مثالاً)، ليجد نفسه في أحد المراكز الأمنية ما إن يصل إلى العاصمة. وليبدأ التحقيق: ماذا كنتَ تفعل في بيروت؟ ومن قابلتَ؟ وما علاقتك بالائتلاف، ووسائل الإعلام المغرضة المتعاطفة معه؟ قد يحقق معك ضابط برتبة عقيد، ليسألك بكل بتهذيب عن سبب لفظك لكلمة متداولة يومياً في كل شارع وبيت سوري، مبرّراً سبب هذا التصرف بأنه لحماية البلاد. والكلام هُنا ليس من وحي الخيال، بل من تجارب شخصية حصلت فعلاً، ووجب توثيقها.
يروي أحمد ظروف اعتقاله، في الشهر السادس من العام الفائت، لمدة ثلاثة أشهر على خلفيات نشاطاته «الفايسبوكية». جلّ ما كتبه هو عبارات من نوع: «الحرية لفلان»، و«أوقفوا القتل». هذه العبارات سبّبت «رفع تقرير به» إلى أحد الأجهزة الأمنية، ما أدى إلى اعتقاله وتعذيبه. لم يكن الشاب العشريني متورطاً في أيّ تواصل مع إحدى جهات «الثورة»، إلّا أنّه خرج من السجن حاقداً. فبدأ التواصل مع التنسيقيات ثمّ مع المجلس العسكري للثورة في يلدا، والتضامن، والحجر الأسود، ليقدّم الدعم اللوجستي لعناصر الجيش الحر. ومنذ بدئه بهذه الأنشطة لم يُعتقل. يقول: «ربما أصبحتُ أكثر حذراً». لكن حذر أحمد لم ينفع، إذ قتل بعد أيام من حديثه هذا خلال وجوده بالقرب من منطقة اشتباك بين الجيش السوري وعناصر من المعارضة المسلحة.
بدوره، سامر (من إدلب) كان الشاب الأصغر في السجن، يبلغ من العمر 17 عاماً. تهمته مساعدة مقاتلي المعارضة باستخدام حماره الذي يمتلكه. وجد نفسه فجأة مع كبار المعارضين والمعتقلين السياسيين، بدل التحقيق معه ومحاكمته في محكمة الأحداث. خرج سامر من السجن، لينضم إلى مقاتلي المعارضة. أما فايز، فهو بائع من حيّ الميدان، يبيع الخيار على عربة متنقلة. ردّد الرجل كثيراً عبارة: «آخر إيّامو». فكانت سبباً كافياً ليعتقل ويحقق معه، ويختفي شهوراً طويلة. لم تتغيّر الأحوال كثيراً حالياً عن السابق، بل هناك إجماع على أنّ وضع الحريات أسوأ من ذي قبل. فكلّما ازدادت الحرب القائمة في البلاد شراسة، استشرس أصحابها في الدفاع عن وجودهم. وتأتي مراسيم العفو، بين وقت وآخر، ليُفرج عن عدد من المعتقلين ممّن «لم تتلطّخ أيديهم بالدماء»، من دون أن تشمل عدداً من معتقلي الرأي. ولهيئة التنسيق الوطنية المعارضة شجونها في هذا الموضوع. فمصير عضو الهيئة عبد العزيز الخيّر، ورفيقيه إياس عياش وماهر الطحان، يبقى مجهولاً بعدما اعتُقلوا بطريقة الاختطاف، بحسب مصدر في الهيئة. وأعلنت وزارة الإعلام، في بيان رسمي، اتهامها لعصابة مسلّحة بعملية الاختطاف، إلا أنّ مصادر في الهيئة استطاعت التأكد من اعتقالهم ومكان توقّف سيارتهم ومقر احتجازهم، إلى أن انقطعت أخبارهم منذ ما قبل أسبوعين حين تمّ نقلهم إلى مكان غير معروف. مئات آخرون من معتقلي «هيئة التنسيق» اختفوا على خلفية مشاركتهم في تظاهرات أو توزيع بيانات ومنشورات، منهم الناشط قيس أباظلي الذي تحوّلت حياته إلى اعتقالات دائمة، ما اضطره أخيراً إلى الهرب خارج البلاد. ورغم اختلاف طريقة الاعتقال السياسي عن السابق، إذ أصبحت فترة الاعتقال لا تتجاوز أشهراً بعدما كانت تستمر سنوات، إلا أنّ مصدراً في «هيئة التنسيق» يجد أن كل شيء في البلاد اليوم يدل على العقلية التي تحكم أجهزة أمنية لا تزال مرتبطة بالماضي.
ومن حزب العمل الشيوعي، أحد أحزاب الهيئة، تمّ الإفراج بكفالة عن 4 أشخاص بينهم ناشطة في الأمم المتحدة، وهم: مجدولين حسن، وهيثم الجندي، ومفيد ديوب، وسمير حيدر، بعدما كانوا قد اعتقلوا وحُوّلوا إلى المحكمة من دون تحقيق في ملفاتهم. ورغم أنّ الإفراج عن هؤلاء جاء بعد صفقة التبادل الأخيرة بين النظام والمعارضة لإطلاق المختطفين الإيرانيين، لم يكونوا جزءاً من الصفقة، بل خرجوا بكفالة 5 آلاف ليرة سورية فقط، ما اعتبرته الهيئة دليلاً على تفاهة التهم التي يُعتقل الناس على اثرها، حيث كانت تهمتهم «الانتماء إلى حزب مرخص _ سرّي».
أساليب التحقيق اختلفت أيضاً، فالوحشية التي يُحكى عنها في المعتقلات السورية لم تعد كما في السابق. ووجب الاعتراف بأنّ الكثير من الناشطين المعتقلين يشيرون إلى عدم الإساءة إليهم من قبل عناصر القوى الأمنية، حيث تتفاوت طريقة التعامل بحسب التهمة الموجّهة ومدى استفزازها لعقلية السجّان. فمن خلال التجربة الشخصية وتجارب الآخرين يتبيّن أنّ تعاطي ضابط الأمن مع الموقوفين لأسباب سياسية يختلف ما بين ذكر وأنثى، وبحسب المهنة التي يشغلها والمكانة الاجتماعية للمعتقل، إضافة إلى نوع الحجّة التي جعلت حظه العاثر يقوده إلى الفرع الأمني. ومن الممكن اليوم أن تعتذر القوى الأمنية من شخص ألقت القبض عليه كما لو أنه مجرم، وتقوم بإعادته إلى منزله «معزّزاً مكرّماً» بعد التحقق من عدم تورّطه في أيّ عمل. أمرٌ ما كان ليحدث في السابق أبداً. كذلك يحصل دائماً أن يسأل الضباط زوّارهم في نهاية التحقيق معهم: «هل تعرّض لك أحد بإهانة أو إزعاج؟». ليضيف قائلاً: «أنتم دائماً تتداولون ضدنا أننا نتعاطى بشكل سيّئ مع من نحقق معهم. ألم نثبت لكم العكس؟». هو هاجس لدى القوى الأمنية اليوم على ما يبدو، أن يظهروا بمظهر حضاري ولائق أمام الصحافة ومنظمات حقوق الإنسان. لكن يختلف الأمر حتماً إن ثبت تورّط الموقوف في أعمال واضحة العداء للسلطة.
وتتفاوت، أيضاً، طريقة التعاطي مع المعتقلين بين فرع أمني وآخر، إلّا أنّ استباحة كرامات الناس لا تتغير في بلد يحلم مواطنوه بأن يُطلَبوا إلى التحقيق عندما يحتاج جهاز الاستخبارات إلى الاستقصاء عن المعلومات، كما في بلدان العالم الراقي. فيمضون إلى ذلك باعتبارهم مواطنين صالحين، ويخرجون بكل احترام فيما لو أثبتوا أنّ صفحتهم الوطنية بيضاء. يبقى للسوريين أن يحلموا بالحرية، ويبقى للأجهزة الأمنية وأجهزة الثورة أن تقبض على أحلامهم.



مئة ألف معتقل!

في ظلّ الحديث عن عدد المعتقلين في سوريا خلال الأزمة، والذي يدور حول 100 ألف معتقل، والرقم متداول وغير دقيق بسبب تسجيل عمليات دخول وخروج من السجن ما بين يوم وآخر، لا يبدو أنّ نسبة الاعتقال السياسي قد انخفضت. ولعملية مبادلة الأسرى الإيرانيين بـ2130 معتقلاً في سجون الأمن السوري صخبها الإعلامي والاستنكار الشديد. ويلفت مصدر في «هيئة التنسيق» إلى أنّ العملية تعبّر عن إشكال وطني ومنطقي لدى الحكومة السورية، معتبراً رقم المعتقلين الذي جرى تداوله رقماً معقولاً في ظل معرفته الشخصية لحوالى 25 معتقلاً تمّ الإفراج عنهم على خلفية الصفقة الأخيرة. ورغم ما يشاع عن تحويل المدارس والملاعب الرياضية إلى معتقلات، يرى المصدر أنّ المعلومات يجري تداولها لإحراج السلطة. إلا أن الكثير من المعتقلين يروون عن أساليب التعذيب خلال التحقيق معهم، على خلفية قيامهم بأنشطة سياسية معارضة.
وليس خافياً أنّ الأولوية في الاعتقال للمتورطين في نشاط مسلّح، وقتل، وتمرّد ضد القانون، ولكن ذلك لم يرفع شبح الاعتقال السياسي عن أصحاب الرأي، إذ لم تخفّ شهية العناصر الأمنية عن ملاحقة هؤلاء، والانشغال بالقبض عليهم أحياناً عن الاهتمام بشؤون البلاد الغارقة في السلاح والمسلحين.