دمشق | لا شوارع تشبه شوارعها القديمة. الطرق في دمشق ليست سوى ممر متقطع من شارع عريض تقسمه متاريس اسمنتية. أهداف التفجيرات غالباً كانت تصيب المقارّ الأمنية أو المؤسسات الحكومية، بما فيها مراكز الشرطة ومبنى المحافظة. وعليه فإنّ طرق دمشق السالكة لن تكون أكثر من شوارع عدة لا تحوي هذه المقرات الكثيرة. وبكلام آخر، لا يتجاوز عدد الطرق أصابع اليد الواحدة. ومن الطبيعي إن حاولت عبور أحد الطرق قاصداً منفذاً آخر إلى الوجهة ذاتها، أن تجد نفسك عدتَ إلى حيّك الذي خرجتَ منه، بعد أن تفاجأ بحواجز اسمنتية تسدّ الطرق، ويقف حولها عناصر من الجيش والقوى الأمنية. في لعبة الموت وسط دمشق لا مزاح أبداً. عليك أن تنتظر دورك للمرور على الحواجز المنتشرة عبر الطرق، وستتضاعف المدة الزمنية التي يستغرقها الوصول إلى أيّ مكان داخل العاصمة، إذ إنّ الازدحام على الحواجز وفي شوارعها السالكة جعل سوء الوضع القائم في البلاد أصعب من أن يمكن احتماله في ظلّ الموت والنزوح، وغلاء المعيشة، وفقدان الأمان. كذلك أُغلقت شوارع كاملة وأنفاق جديدة منذ بداية الأحداث الأمنية، بعدما أُنشئت قرب عدد من المقارّ الأمنية قبل الأزمة تخفيفاً من الازدحام الذي تشهده مناطق دمشق، كأنفاق كفرسوسة التي تصل باب مصلى والجمارك وكفرسوسة والبرامكة بالمزة ودمشق الجديدة، ما أدى إلى عبء مروري إضافي.
أغلب الطرق المسدودة بحواجز إسمنتية، تفتح غالباً للسيارات العسكرية والأمنية. لذا لجأ البعض إلى أساليب تساعدهم على تخفيف ما يتعرضون إليه خلال الأزمات التي تعانيها البلاد، وهي محاولة الحصول على بطاقة عسكرية أو بطاقة حمل سلاح، ما يجعلهم يتميّزون عن بقية سكان دمشق بقدرتهم على عبور الخط العسكري المفتوح عادةً للإسعاف والطوارئ والعسكريين. وهُنا بدأ تمييز من نوع آخر بين الناس في ضوء التسهيلات الجديدة التي جعلت الناس يتسابقون للحصول عليها، الأمر الذي أدّى إلى تدقيق أكبر على السيارات العسكرية وتفتيشها أو منع بعضها من عبور بعض الطرق المغلقة، ولا سيّما بعد تفخيخ سيارات عسكرية في تفجيرات عدة، أبرزها تفجير جرمانا الأخير.
يروي حُسام، موظف في مصرف، لـ«الأخبار» معاناته عند الذهاب إلى عمله يومياً والتأخير المعتاد، بالإضافة إلى العودة في وقت متأخر إلى منطقة إقامته في الزاهرة، ما يعني تعرضه لأخطار متعددة، لافتاً إلى تغيّر أحوال دمشق ما بعد الساعة الثامنة، وخلوّ شوارعها من السيارات وكأنّ السكان أخذوا على عاتقهم إقامة حظر تجوال إرادي. ويجيب الشاب الدمشقي عن بعض الأسئلة، عن كيفية الحصول على بطاقة عسكرية بضرورة وجود ضابط ضمن العائلة أو معرفة وثيقة بأحد المصادر، الذي يمكنه تسهيل الحصول على بطاقة ممهورة بخاتم الاستخبارات بشرط أن يكون حاملها مؤيداً موثوقاً للنظام. إذاً هذه التسهيلات تقدّم للمؤيدين فقط؟ يبتسم حسام قائلاً: «ليس بالضرورة. أعرف معارضين وحياديين يحملونها نتيجة صلاتهم الوثيقة مع أحد الضباط أو المسؤولين النافذين».
لا معايير واضحة للحصول على بطاقة تفتح الطرق المسدودة في دمشق. ويكفي أن تخطئ الطريق ذات ليلة، وتحاول عبور أحد الطرق غير المغلقة جيداً كي تصوّب عليك فوّهات بنادق قد لا تعرف أنواعها، وتضع نفسك في مساءلة ريثما تثبت أنك لم تقصد الدخول إلى هذا المكان لتفجير أحد المقارّ.
وفي المقابل، يروي علاء، ملازم في الجيش، أنّ استخدام الخطّ العسكري لم يعد محبّباً لدى عدد كبير من العسكريين، ضباطاً ومجندين، إلا في حالات إسعافية واضطرارية، خشية العيون الرقيبة على الحواجز التي تتابع العسكريين وتبلغ عنهم الميليشيات التي تستهدفهم وسياراتهم بالخطف والقتل والتفجير. ويتابع الملازم قائلاً إنّ البطاقة العسكرية قد تفي بغرض بعض المواطنين بهدف التخلص من الحواجز الإسمنتية الجاثمة على قلوبهم، التي لها ضروراتها للتخفيف من احتمال إصابة المسلحين لأهدافهم التي يخططون لتفجيرها. ورغم أنّ هذه الإجراءات لم تخفف من عدد الانفجارات اليومية، إلا أنها بحسب، علاء، خففت من الإصابات قرب المقارّ الحكومية والأمنية. وإن كان انفجار وزارة الداخلية الأخير الذي أدى إلى إصابة وزير الداخلية نفسه، يخالف ما يقوله علاء، إلا أن الحواجز الإسمنتية لا تمنع الانفجار، مثلها كمثل الحواجز. كذلك فإنها لا تمنع موت المدنيين الذين لا حواجز إسمنتية تحميهم، أو تفصل عنهم الموت الآتي.
وليس خافياً التشويه البصري للحواجز الإسمنتية الذي أثّر على المظهر العام لشوارع دمشق، ما دعا إحدى المجموعات الشبابية (شباب بحبك سوريا) إلى التطوع، ذات ليلة، للقيام بطلاء معظم الكتل التي تغلق طرق دمشق بألوان العلم السوري، محاولين تغيير تأثير مظهرها المنفّر. خطوة وجدها البعض جيّدة ومؤثرة، فيما اعترض البعض الآخر الذي رأى أن ألوان العلم لن تخفّف من حدّة إغلاق الطرق، لافتين إلى عدم جرّ العلم السوري لتعلّق عليه آثار الأزمة! كذلك لم يخفّف تغيير عبارات كانت تكتب على الجدران الاسمنتية التي يقف قربها عناصر الجيش السوري من وطأة الانتظار، رغم الاستعاضة على بعض الحواجز عن عبارات مستفزّة مثل: «الأسد أو لا أحد»، بعبارات أُخرى مثل: «أخي المواطن... انتظارك دقائق معدودة يقيك قنابل موقوتة». ولم تنفع جميع المحاولات لقتل شعور وحيد يرافق السوري اليوم يقوده إليه السير ضمن شوارع مدينته. الشعور بأن طريقه أينما ذهب... مسدود.