وقفا أمام المدخل، تمتم بصوت منخفض بضع كلماتٍ لم تفهمها حفيدته، لكنها لم تسأله شيء. أكملا العبور بين الحشائش المريضة والأحجار المتكسرة على طرفي الطريق. وصلا، أفلتت يديها عن المقعد المتحرك مطلقة سراح المختار. ألقت السلام على جدتها ثم اتخذت لنفسها مكاناً جانبياً، تفسح فيه المجال لجدها بأن يحظى ببعض الوقت مع المختارة، لوحدهما.
وضع راحة يده على شفتيه، ثم بلهفة المشتاق مسح القبلة على قبرها. ابتسم وقال: «أتعلمين يا كرمى؟ جلست اللبارحة مع نفسي لأجمع كلامي لأصف شعوري لك. هناك الكثير الكثير لأخبرك عنه. لكني سأحدثك عن الشيء الذي سكنني اللبارحة. بقيت أتقلب لساعات عدة، أتذكر كيف كانت حياتنا في بلدتنا اللزازة. تذكرت جيراننا الذين أهدونا بقرتين لمناسبة ولادة طفلتنا الأولى مريم. تذكرت كيف أصريتي عليّ لبيع احداهما كي نرد المال الذي اقترضته من أبي يوم زفافنا. كم دُهشت منك وقتها!
حاصرتني رائحة الطحين بين أصابعك وقطع العجين في النار. ياه كم اشتقت للقهوة التي كنت تعدينها لضيوفي في ديوان بيتنا، "ديوان مختار اللزازة". لذلك المجلس ذكريات لا تُحصى يا كرمى، خصوصاً في السنة التي سبقت النكبة، عندما بدأ الاحتلال يأخذ شكله الحقيقي وينتشر في أرضنا. أتذكرين يوم وصلنا خبر ان اليهود يقومون بتفتيش بيوت معينة في القرى المجاورة لنا؟ يومها ركض ابن عمي ينادي علي: "يا مختار شيل المارتينات (بواريد الدك؛ المارتيني) وخلّي بس الجفت، جايين يوخدوهم". أخذت أتلفت يميناً وشمالاً، أبحث عن مخبأ جيد. قلتي لي: "لن يخطر لهم ان يبحثوا في السقف. لنضع البواريد بين الأخشاب المغطاة بالتبن" (في ذلك الوقت، كان سقف البيوت يصنع من الخشب كهيكل أساسي، ثم يغطى بطبقة من التبن و الطين). عندما أتوا، لم يصدقوا ان بيت المختار لا يحوي بواريد، لكن نجحت خطتك بالفعل!
تذكرت يوم نزلت الى النهر ومعي شبكة الصيد، كان يوماً مثمراً، وما ان رميت الشبكة في الماء، حتى علقت ربوط (نوع من انواع السمك النهري) متوسطة الحجم فيها. سمعت صراخ مريم من بعيد: "يابا يابا، أعطيني السمكة". علمت انها لحقتني الى النهر واختبأت كي لا ألاحظ وجودها، لكنها نسيت كل ذلك حالما لمحت السمكة داخل الشبك، لم أستطع توبيخها على فعلتها، لأنني ضحكت من قلبي لمشهدها، فتاة في السادسة من العمر تركض باندفاع وابتسامتها تغطي كامل وجهها، وصلت الي وأمسكت طرفي ثوبها الواسع وقالت: "يابا، يلا، حطلي السمكة بالثوب، بدي اخدها لعند امي".
اغرقني ليل اللبارحة بالحنين الى ماضينا، الى أرضنا وزيتوننا. أمطرني ظلام الغرفة بصور متفرقة من أيام النكبة. تذكرت كيف كنا "بسطاء" - كي لا أقول أغبياء- كيف صدقنا ان خروجنا من قريتنا لن يطول أكثر من أسابيع معدودة، حيث حفرنا داخل البيوت وخبأنا القمح في الحفر، كي نجده عندما نعود. حتى اننا عندما رحلنا عن أرضنا بقينا لأسابيع نسكن في الأراضي اللبنانية الملاصقة للحدود، كي نظل على مقربة من قريتنا وبيوتنا بينما كنا نسمع أخبار الحرب و"انتصارات" جيش الإنقاذ العربي. وكنا حين يحل الليل، نترك أولادنا هناك، ونزحف رجالاً ونساء الى داخل الأراضي الفلسطينية، نقطف ما نجده على الأشجار. ندخل البيوت ونأخذ القمح الذي خبأناه، نصنع منها أرغفة الخبز ونعود به الى أطفالنا. أتذكرين احدى المرات حين كنت متسلقاً على شجرة البرتقال، وإذ بنا نسمع أصواتاً غريبة وطلقات نار؟ بقيت متجمداً في مكاني لنصف ساعة، حتى تيبست قدماي.
آه يا مختارة، ليتنا كنا نعلم ان خروجنا من فلسطين سيكون بداية نكبات متتالية. فالمخيم الذي اتخذناه أرضا لنا ريثما نعود لوطننا، أثقلنا بالألم والدم والموت. كان تل الزعتر اول مخيم نتخذه بيتاً بعد فلسطين».