(3/1)
شق جفناه ليسترق النظر الى الساعة المعلقة على الحائط، تماماً بجانب مفتاح داره في قرية اللزازة التابعة لمدينة صفد الفلسطينية. يبدو أن جدي لم ينجح فقط في الحفاظ على الروابط العائلية والمعارف القيمة التي حظي بها أيام "المخترة". أكثرنا لمس صداقته المدهشة مع عقارب الساعة، لا يخطئ المختار موعداً أبداً، وبالأخص، اذا كان الموعد مع المختارة.

"كرمة" اسمها، لكنني لم أعِ ذلك الا منذ سنوات معدودة. كان الجميع يناديها بـ"المختارة"، وكان اللقب يستحوذها بفخر. لها مكانة محصنة في مخزون ذاكرتي، لا يحصل عليه سواها. كنت أعتبر مشيتها وهي تحمل أكياس الخضار على رأسها، وبيديها الاثنتين أغراضاً أخرى، لتخلق بهما التوازن اللازم بدقة، نوعاً من التباهي بصلابة قامتها المتينة. يحق لها ذلك، فخيرات الأرض التي امتلكها المختار قبل النكبة كانت لها، كذلك البقرتان اللتان كانتا هدية طفلتها الأولى "مريم". فالاهتمام بصحتها وصحته كان أولوية تامة بالنسبة لها.
تفاصيل كثيرة ما زالت ملتصقة داخلي، كالكحل العربي الذي اعتادت تجميل عينيها به والوشوم الخضراء المرسومة أسفل ذقنها وعلى طرفي خديها. أذكر أنني سألت أمي يوماً، عن معنى تلك العلامات ولماذا تضعها جدتي -وجدتها أيضاً- فشرحت لي كيف كان يعتبر "الغوارنة" هذه العلامات رمزاً للجمال. فعائلة أمي أصلها من عرب الغوارنة الذين سكنوا مناطق عدة في الجليل.
لم تكن المختارة امرأة متكاملة كما ينحتها الخيال، بل كان شائعاًَ بين الناس ضعفها الشديد في الحساب، فلطالما تغلب عليها الباعة الجوالون، إذ كانوا يطرقون بابها ليعرضوا أمامها ما بحوزتهم من بضائع. لا أعلم لماذا كانت تشتري من الجميع. ففي مرات متفرقة، لم تكن بحاجة الى تلك الأشياء التي دفعت ثمنها ضعفين بسبب "دهلزة" البائعين.
انها الساعة الرابعة بعد الظهر. نهض المختار من فرشته المحشوة بالماء، بعد قيلولة متواضعة اضطر الى أخذها لإراحة جسده. بحثت يده عن "عكازه" –العصا التي تساعده في اجتياز المسافات الصغيرة جداً بنجاح - أحكم قبضته على رأسها وهمّ من مطرحه. فتح باب الخزانة الموجودة في غرفة الجلوس. تفحصت عيناه البدلات المكوية بعناية تامة، والمصفوفة بحسب تدرج الألوان. اختار البدلة السوداء مع القميص الأبيض والحطة، وبالتأكيد لم ينسَ "العقال". ارتدى ثيابه على مهل وأمام مرآة مكسورة، كانت موضوعة بجوار التلفاز في الغرفة، وضع الحطة على رأسه وثبتها بالعقال الأسود الأنيق.
انتهى من تجهيز نفسه، وها هو جالسٌ امام مدخل البيت، ينتظر حفيدته التي اعتادت أن تأتي كل أسبوع في الوقت عينه، كما طلب منها منذ ما يزيد عن السنة. علمها احترام الموعد كما يجيده هو بالفعل.
سمع صوتها يقترب، فتحت الباب الخارجي، ومدت رأسها قائلة: "يلا سيدي، نمشي؟". أعانته عكازته للوصول الى الباب، جلس على المقعد المتحرك بمساعدة حفيدته، وخرجا سوياً للقاء المختارة.