تونس | «البجبوج»... ذلك هو الاسم الساخر الذي أطلقه خصوم السياسي التونسي المخضرم عليه. ثمّ إنّ أولئك الخصوم ــ ومعهم المقلدون الساخرون للسياسيين الذين تكاثروا في السنوات الثلاث الأخيرة ــ ما فتئوا يغمزون متهكمين من مفردة «بحيث» التي يستعملها الباجي قائد السبسي بوفرة في كلامه، لكنّ الرجل العجوز المشرف على التسعين من عمره، تلقف اللقب الساخر، واللازمة المكررة في تعابيره، ليوظفهما في دعايته الانتخابية. فانتشرت في البلاد اللوحات الدعائية الضخمة التي تظهر فيها صورة الباجي مع عبارة «فبحيث...أنا أحب البجبوج».

لكنّ التونسيين الذين «هرموا من أجل هذه اللحظة التاريخية» التي نالوا فيها حريات سياسية لم يتعودوها من قبل، ليسوا كلهم متحمسين لعودة شيخ هرم، ينتمي إلى جيل يكاد ينقرض، لكي يقود لحظتهم التاريخية الراهنة بكل تعقيداتها وتحدياتها ومخاطرها. وكثير من التونسيين الذين خبروا الرجل في ماضيه، ثمّ أعادوا اكتشافه في حاضرهم، ليسوا واثقين بأنّ ديناصوراً سياسياً عتيقا يمكن أن يصلح لإدارة مستقبلهم!
ثمّ إنّ تاريخ الباجي لا يشجع الكثيرين على الثقة به. لذلك ترى خصومه يصوبون سهامهم، مثلاً، على فترة ماضية أشرف فيها الرجل على جهاز الأمن في تونس، ثمّ على وزارة الداخلية في عقد الستينيات من القرن الماضي. وتلك فترة تزامنت مع خضّات اجتماعية، ومحاولات انقلابية، وحروب داخلية وإقليمية جوبهت بمزيج من القمع والاغتيالات والتعذيب والتشريد (من المفارقات أنّ محمد البدوي والد الرئيس المنصف المرزوقي، وهو من خصوم دولة بورقيبة، قد ناله في ذلك العهد ــ بداية الستينيات ــ من الاضطهاد ما جعله يهرب إلى المنفى في المغرب الأقصى، ولقد هاجرت معه عائلته، ومن بينها الفتى المنصف الذي أكمل سنيّ شبابه، ناقما على البورقيبيين جميعا، ومن بينهم مدير الأمن ووزير الداخلية الباجي قائد السبسي).
وتاريخ الباجي ليس مشوباً فحسب بشبهات القمع والتعذيب، فهو أيضاً تاريخ مشوب سياسيا؛ ذلك أنّ الرجل كان واحداً من أعضاء حكومة بورقيبة، التي أشرفت على تزوير نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1981. والباجي اعترف لاحقاً بأنه كان مطلعاً على عملية التزوير تلك، لكنه مع ذلك لم تصدر عنه ــ وقتها ــ ردود فعل سلبية ضد هذا الاختراق للقانون وللعملية الديموقراطية.
تاريخ الباجي ليس مشوباً فحسب بشبهات القمع والتعذيب فهو أيضاً تاريخ مشوب سياسيا


سيقول المناصرون لقائد السبسي أنّ الرجل رُفِتَ أثناء انعقاد المؤتمر التاسع للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم بين يومي 12 و 15 أيلول 1974. وأنّ ذلك المؤتمر (الذي رفت منه الباجي) هو الذي دعا إلى مبايعة بورقيبة رئيساً على تونس مدى حياته، لكنّ المطلعين يعرفون جيداً أنّ أسباب رفت الرجل لم تتعلق أبدا برفضه مساندة بورقيبة في هوسه الدائم باحتكار السلطة المطلقة، بقدر ما كان الرفت نتيجة تناحر وصل حدّ الإقصاء بين أجنحة الحزب الحاكم يومذاك.
وسيقول المناصرون للباجي إنّ الرجل أشرف بنجاح وكفاءة على التحول الديموقراطي في البلاد، بعد إطاحة زين العابدين بن علي من الحكم، سنة 2011. وذلك قول فيه من الصدق ما فيه من المبالغة؛ فتونس شهدت، في فترة الباجي، انفلاتات غير مسبوقة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. ثمّ إنّ الباجي الذي لم يقدر أن يتحكم في تلك الانفلاتات حينها، قد زاد في إثقال كاهل الميزانية التونسية المتواضعة والمتردية بمثاقيل من الصرف المالي أرهق به اقتصاد البلاد. وإنّ مالية الدولة ما زالت تعاني آثار ذلك الصرف غير المحسوب، حتى الآن!
وخوف التونسيين من الباجي لا ينحصر في مدى قدرته، وهو المُسنّ الذي بلغ الثامنة والثمانين من العمر، على الاضطلاع بدور القيادة السياسية التي تحتاج من صاحبها إلى قوة وجَلد وكفاءة وتدقيق ودأب ونشاط وعزم. لا، بل إنّ خوف التونسيين أيضاً يتعدّى إلى أولئك الذين يحيطون اليوم بالرجل العجوز، وأغلبهم كانوا منذ بضع سنين، أعضاداً للرئيس الأسبق بن علي (50 من أصل 86 نائبا انتخبوا كممثلين في البرلمان الجديد عن حزب «نداء تونس» الذي يتزعمه الباجي، كانوا مسؤولين وكوادر في حزب بن علي المنحل!). فهل يمكن أن يثق تونسيون تمردوا على وصاية حزب أوتوقراطي طاولهم استبداده أكثر من نصف قرن، بعودة أزلام ذلك الحزب من جديد؟!
وتبقى لكثير من التونسيين شكوك وهواجس أخرى حول سرّ ذلك الغزل الدائم الذي دأبت تصريحات الباجي قائد السبسي، في المدة الأخيرة، على إرساله لحكام الإمارات والسعودية ومصر. وهل ذلك الغزل مرده إلى مناكفة المرزوقي الذي لا يتردد بدوره عن مدح دولة قطر وحمدها، والتحذير من «التطاول» عليها؟ أم أنّ سبب تزلف الباجي للإماراتيين السيارتان الفارهتان المصفحتان (مرسيدس إس 550 + تويوتا لاند كروزر استيسن موديل سنة 2013) اللتان أهداه إياهما، منذ أشهر، ولي عهد الإمارات محمد بن زايد؟ (من المعلوم أنّ قانون الأحزاب في تونس يحظر على السياسيين أن يتقاضوا تمويلا نقديا أو عينيا من جهة أجنبية، ويعاقب بالسجن بين سنة وخمس سنوات من يخالف ذلك)
الأكيد أنّ وراء الأكمة التونسية، ما وراءها!