تحجب أحداث الجبهة الشمالية الأضواء الإعلامية عمّا يدور في درعا الجنوبية. المحافظة التي أرادتها القوى التي تدير عمليات المعارضة منطلقاً للهجوم على العاصمة دمشق، بهدف الضغط على النظام ودفعه إلى تسليم الحكم للمعارضة، تشهد تبدلاً جوهرياً في وجهة القتال. أشهر الدفاع انقضت، وعاد الجيش السوري إلى الهجوم. في بداية العام الماضي، أصاب الجبهة الجنوبية بعض ما أصاب مثيلتها الشمالية الغربية في إدلب. الانهيار في المحافظة الشمالية، تبعه تراجع للجيش في الجنوب، وتحديداً في بلدة بصرى الشام، ومقر اللواء 52 في درعا، وفي التلول الحمر في القنيطرة. اندفع المسلحون الذين تقودهم الاستخبارات الأميركية عبر غرفة العمليات في العاصمة الأردنية عمان (موك). أعلنوا في حزيران الماضي انطلاق «عاصفة الجنوب»، وهدفها السيطرة على مدينة درعا، قبل أن يُطلقوا معركة «وبشّر الصابرين» لاحتلال مواقع الجيش الباقية في القنيطرة. لم يكن أكثر المتفائلين ممن يراقبون أحوال الجبهة الجنوبية عن قرب يرى أن مسلحي «الجبهة الجنوبية» و«جبهة النصرة» وحلفاءهم سيفشلون في مسعاهم. لكن القادة الميدانيين في الجيش السوري والقوى الحليفة كانوا يصرّون على أن أحوال الميدان لا تمتّ بصلة إلى ما يحاول المسلحون وغرفهم الإعلامية الترويج له. استناداً إلى «الخط المانع» الذي أقامه الجيش وحلفاؤه في ريف درعا الشمالي الغربي في شباط 2015 لحماية ريف دمشق من زحف الفصائل التابعة لـ«موك»، دخل الجيش أشهراً ثلاثة من الدفاع الصرف، في درعا، وعلى طول الطريق الذي يصلها بدمشق. منظومات الإنذار المبكر والاستطلاع، مكّنت وحدات الجيش من إدارة معركة أحبطت كل الهجمات في درعا، سواء في المدينة، أو على طول أوتوستراد دمشق ـ درعا، أو قرب جِدية ومطار الثعلة وإزرع وقرفا وغيرها من المدن والبلدات والمواقع. وفي القنيطرة، خسر عدداً من المواقع، لكنه استعادها كلها. ثلاثة أشهر من القتال شبه المتواصل كانت حصيلتها البشرية قاسية على المسلحين، لترفع عدد قتلاهم خلال عام ونصف عام (بين منتصف عام 2014 ونهاية عام 2016) في الجنوب السوري إلى أكثر من 3300، بحسب إحصاء دقيق مستند إلى ما يعلنه المسلحون أنفسهم. كذلك فاق عدد الجرحى الـ7 آلاف، بينهم نحو 1800 ممن لن يكون بمقدورهم العودة إلى ميادين القتال. مردود سلبي ثقيل على الفصائل، التي يبلغ عديد مقاتليها الجديين نحو 15 ألفاً، بينهم نحو 4 آلاف مقاتل كقوة هجومية يمكن تصنيفها كرأس حربة هجومية، بحسب مصادر ميدانية واسعة الاطلاع. المسلحون المتمرسون كادوا أن يُبادوا. والجيل الجديد منهم، بحسب من خبروهم في الميدان، ليسوا كالجيل الأول، الذي كانت له تجربته الخاصة منذ عام 2011، مضافة إلى التدريب الأميركي في الأردن، وإلى خبرات الحروب العراقية والأفغانية.يقول قائد ميداني رفيع إن الجيش السوري وحلفاءه تمكنوا من سلب المسلحين قدرتهم، «لكنهم لا يزالون يملكون إرادة القتال». التغيّر حصل بفعل الخسائر الكبيرة التي مُنوا بها بين حزيران وأيلول 2015. جرى ذلك قبل الدخول الروسي المباشر على خط القتال في سوريا (في الثلاثين من أيلول 2015).
بلغت خسائر المسلحين نحو 3300 قتيل على مدى عام ونصف عام

بعد الدفاع، انتقل الجيش إلى الهجوم. دخل حي المنشية في درعا، ثم بدأ التخطيط لاستعادة مدينة الشيخ مسكين. على مدى شهر كامل، قاتل الجيش في الشيخ مسكين، حتى حررها يوم 26 كانون الثاني الماضي. وسقط له أقل من 70 شهيداً، في مقابل أكثر من 250 قتيلاً للمسلحين. قائد ميداني يقف عند «دلالات معركة الشيخ مسكين». يقول إن الجيش السوري قاتل بلا حلفاء. شارك مستشارون من المقاومة والجيش الروسي في غرف العمليات. لكن القتال كان للجيش وحده. الطائرات الروسية لم تكن تعمل بفعالية تفوق فعالية الطيران الحربي السوري، إذ إن الروس يضعون ثقلهم الجوي في الشمال. ويلفت مصدر عسكري إلى أن تطورات وضع الجبهة الجنوبية ناتجة من ثلاث ركائز تحدّث عنها رئيس أركان الجيش السوري العماد علي أيوب بعد زيارته الشيخ مسكين، وهي: غرفة عمليات مركزية فعالة، نظام رصد واستطلاع متقدّم (تقني وبشري)، ومزج الجيش بين النظريات الكلاسيكية وحروب العصابات. بات من غير المستهجن أن يحمل جندي في الجيش عبوة ناسفة لمسافة 5 كيلومترات «خلف خطوط العدو»، وزرعها وتفجيرها بالهدف، ثم الانسحاب إلى قاعدته.
بعد الشيخ مسكين، اختار الجيش بلدة عتمان، الخاصرة الشمالية لمدينة درعا. في غضون أيام قليلة، انهار المسلحون الذين تقطّعت خطوط إمدادهم من طفس. وأهمية معركة عتمان تتأتى من أنها خيضت في مواجهة «لواء العز»، التنظيم الذي تحتضنه الاستخبارات الأردنية وأخواتها في غرفة «موك». يملك هيكلية واضحة ومتينة، ويُراد له أن يكون رافعة المسلحين بعد الجراح التي أصابتهم. وفي عتمان، كان الطيران الروسي محيّداً بالكامل عن القصف داخل البلدة. الجيش قاتل أيضاً بلا حلفاء.
بعد الشيخ مسكين وعتمان، صدرت نداءات للمصالحة في إبطع وداعل، اللتان تفتح سيطرة الجيش عليهما طريق دمشق درعا القديم. وتشترط القيادة السورية في أي مصالحة يجري التفاوض بشأنها حالياً دخول الجيش إلى البلدة، وعدم الاكتفاء بإعلان المسلحين وقف القتال والمحافظة على خطوط التماس كما هي. المصالحة لا تزال متعثرة في البلدتين، بفعل مراهنة بعض المسلحين على اتفاق ميونيخ لوقف إطلاق النار. وإعلان فشل المفاوضات سيعني حكماً المعركة. ماذا بعد؟ الأولوية حالياً لتوسيع رقعة الأمان حول مدينة درعا، وباقي مناطق سيطرة الجيش في المحافظة، تجزم المصادر الميدانية. بلدة النعيمة (شرقي درعا) واليادودة (شمال غرب درعا) صارتا من الأهداف القريبة. أما انخل وجاسم، فبدأ بعض وجهائهما التواصل مع قادة الجيش والاستخبارات، لبحث إمكان تجنيبهما معركة مستقبلية. وتبقى «أم المعارك» في الجنوب، تلك المنتظرة في مدينة نوى، واسطة عقد سهل حوران. لكن هذه المعركة مرجأة إلى حين. الأولوية اليوم لتوسيع رقعة الأمان حيث يجب، تشدد المصادر.
ما يجري في الجنوب يمكن تلخيصه بما يدور داخل مدينة درعا. عام 2011، انطلقت الاحتجاجات في سوريا من المدينة الجنوبية. وطوال السنوات الماضية، كانت قاعدة انطلاق شمالاً للضغط على دمشق، وخاصة أنها تبعد أقل من 4 كيلومترات عن الحدود الأردنية. يوم أول من أمس، بدأ الجيش السوري عملية عسكرية في حارة البجابجة وحي البدو في الجزء الجنوبي من المدينة، المسمى «درعا البلد»، المنطقة التي خرجت منها أول تظاهرة في سوريا، قبل بداية ربيع عام 2011. الجيش السوري يطرق ــ بقوة ــ أبواب «مهد الثورة».




الشعيطات أيضاً

بعد المجازر التي ارتكبها تنظيم «داعش» بحق أبناء عشيرة الشعيطات في دير الزور عام 2014، انتقل عدد كبير منهم للقتال في صفوف مسلحي المعارضة في الجنوب. وبحسب مصادر عسكرية في درعا، فإن نحو 300 مسلّح من الشعيطات تركوا الجبهة الجنوبية قبل أسابيع، بعد مفاوضات أجرتها معهم الاستخبارات العسكرية السورية، والاتفاق على انتقالهم مجدداً إلى دير الزور لقتال «داعش». وأمّن الجيش السوري مسارهم من الجنوب إلى الشمال الشرقي، بعدما زوّدهم بالأسلحة والذخائر وما يحتاجونه في معركتهم. وينفّذ هؤلاء المقاتلون عمليات ضد مواقع «داعش» ودورياته في محافظة دير الزور.