ارتقى منذ أيام زياد أبوعين شهيداً. الوزير المقاوم ارتقى شهيداً، كثيرون لا يعرفون شيئاً عن الرجل، نهائياً. كثيرون حتى لم يهتموا باسمه سابقاً، رغم أن ما قدمه لفلسطين كثيرٌ جداً. لكن عدم حبه الظهور إعلامياً جعله بكل بساطة "يختفي" عن العيون. لكنه كحال أي فلسطيني يصبح "مشهوراً" عند "استشهاده". لا ينفع الفلسطيني إعلامياً إلا شهيداً. تصبح فجأة فلسطين بكاملها بلاداً من شهداء، لا أكثر ولا أقل: ليس فيها مهندسون، أطباء، محامون، معلمون، طلاب: فقط بلادٌ للشهداء ليس إلا.
سقط زياد أبوعين الوزير المقاوم الذي لا يشبه أي وزيرٍ في العالم. كان الوزير الراحل مقاوماً من الطراز الأول، قضى عمره كما لو أنه يحياه على عجلٍ. كان يعرف أن نهايته وشيكة لربما هي "حياةٌ منهكةٌ" أرادها أن تكون مكللةً بنهاية شبيهة. من شاهد الفيديو الذي التقط لحظة استشهاد الراحل سيعرف كيف كان زياد يتمنى تلك النهاية: الاستشهاد برصاص أعدائه، أو على أيديهم على أقل تقدير. يقول كثيرون إن "الكراسي" تغيّر الرجال، لكن أبوعين لم يكن ممن عشقوا تلك الكراسي الخشبية البالية، كان يعي تماماً أن منصبه يعني أن يخدم الناس، أن يغني أغانيهم، ويفرح لفرحهم، ويغرس غرسهم. ولكن الزيتون يضايق "القتلة". تفيد الغراس في الاستمرارية في الأرض، تمتد عميقاً في التراب، والقاتل يخاف ذلك. يريد القاتل تهجّير هذا الشعب بكامله من هناك، فكيف سيقبل بـ"شجرةً" تدوم للأبد؟ ولأنها قصةٌ "تراجيدية" لا بد أن يرحل أبطالها.
كان زياد يعرف التميمة (ان تحب ارضك وتعشقها الى حد الموت) والأغنية فغناها برحابة صدر، لكن القاتل لا تنفع الأغاني معه، فيحاول وأدها بكل ما أوتي من قوةٍ وتعنت، معتقداً أن الأغاني توأد في وطن الأغاني والشهداء. اقترب زياد من قاتله، كان يعرف ان العين ستقاوم المخرز وستنتصر في آخر المطاف. فالصهيوني ليس أول المحتلين ولا آخرهم، وهو ليس بالتالي آخر مطاف الفلسطيني المقاوم. فالجسد الذي يزرع في الأرض لا يمكنه إلا أن يزهر مقاومة. يعرف الفلسطيني ذلك أكثر من غيره، كونه صاحب الأرض، كونه نداءها الأول والأخير. فالشجرة المثمرة هي درع هذا الكوكب ورئته وروحه: والفلسطيني هو شجرة هذا الكوكب كله من أقصاه إلى أقصاه.
زرع زياد نفسه في الأرض، العين التي ترى كل شيء، عين "حورس" (الاله الفرعوني الذي ترمز العين الى قدرته على رؤية كل شيء) التي لاحقته أينما حلّ، كانت تشاهده حينما رحل. والروح ميدان الصورة الأول والأخير كانت معه كذلك: كانت الكاميرا تراقب ما يحدث على عجلٍ كما لو أنّه في تمثيلية عجلى، يسقط البطل مضرجاً وحيداً، القاتل يراقب ما يحدث غير آبهٍ بأحد. لايصفق الجمهور. لا يبكي أيضاً فهو يعرف أن "القيامة" لابد آتية، والقيامة لا تكون من عند الله فحسب، فالقيامة قد تأتي من الأرض أيضاً. والقيامة فعلٌ قبل أي شيء، فهي تشتق من "قام" ومن "قومٍ" أيضاً.
يسقط نورٌ فيضيء المكان. هكذا هي فلسطين، تنجب النور فلا يختفي إلا الظلام. فإن أضاء نور جديد يعرف الآتون أن الطريق باتت آمنة، فيأتون على عجلٍ كعادتهم وهذه المرة يبقون إلى الأبد.