اليرموك | السبب الحقيقي وراء ذلك المشهد كان "حبة السكر". فقد تحولت تلك الذرة الى حلم صعب كون السكر اصبح سلعة نادرة الوجود، وإن وجدت، فسعر الكيلو الواحد منها... 15 ألف ل.س! وفي ظل الحصار المطبق كفكي كماشة على مخيم اليرموك، من المستحيل توافر ذلك المبلغ في أيدي الناس. وإن توافر كان يُصرف ثمناً لبعض حشائش "السليق" التي تتحول إلى الوجبة الوحيدة في اليوم.بين الحصار وندرة المواد الغذائية خصوصاً الرز والسكر، بتّ أنظر حولي فأجدني في مدينة للأشباح: الوجوه صفراء ذابلة، والأجساد هزيلة ضامرة، والعيون مطفأة وفاقدة لأية حيوية.
وفي هذه الأثناء، انتشر بائعو الشوكولاتة المحلية الصنع، إذ وصل سعر الأوقية منها إلى 1500 ل.س. هكذا، بتَّ ترى الأطفال (وأحياناً الكبار) يتحلقون حول تلك البسطات على أمل نيل أي قطعة أو انتهاز فرصة رمي ورقة بعد أكل محتواها، ليتسابقوا عليها أملاً بلحس أي أثر علق بالورقة!

هنا، كيفما نظرت ترى مشاهد وكأنك في رواية أو فيلم تراجيدي! انتشرت الأمراض والأوبئة خصوصاً التهاب الكبد، اليرقان... إنه الواقع المر. واقع الحرب الدائرة في سوريا وما ترتب عليها.
لكن المحاصر منا كان، بلا وعي، يحاصر حصاره. كنا نتفنن بغلي كل ما جادت به الأعشاب، فكثر شرب الخبيزة والكمون الفاقد للذعة الطعم الحلو في كأس شاي ساخن...
إنه الحصار بكل جبروته وقساوته، يرسم الحزن على كل وجه. ما زلت أذكر ذلك الطفل الذي ظلّ يبكي، وفي أغلب الأحيان من دون دموع، فقط بالأنين، وهو يراقب بائعي الشوكولا وبسطاتهم. إنه صوت الشكوى من عدم استطاعة المشي أو الوقوف على قدميك، صوت فقدان شغف الحياة والطمأنينة، فقدانك التفكير باستمرارية الحياة لدقيقة بعد، وأنت ترى العباد تتهاوى وتقع على قارعة الطريق وتموت في بعض الحالات بسبب سوء التغذية والانخفاض المفاجئ بنسبة السكر بالدم.
حسناً. هذا لمن لم يأكل الشوكولاتة. اما إن أكلت؟ فلن تستطيع الانتصار على ما تسببه تلك الشوكولاتة من وجع في البطن وتلبّك بالأمعاء وما يرافقهما من إسهال بسبب القطر الصناعي بدل السكر، إضافة إلى استعمال السمن المهدرج بدل السمن النباتي الخفيف على الجهاز الهضمي، ناهيك عن استخدام مادة "الغلسيرين" التي تستخدم عادة لأغراض طبية أهمها معالجة الإمساك!
تخيل عزيز القارئ ما الذي يمكن "للغليسرين" أن يفعله بشخص يتناول بالكاد وجبة واحدة يومياً. هل تعلم ان مادة "الغليسيرين" تتميز بالتصاقها على جدارن المعدة والأمعاء مسببة إسهالاً شديداً. إسهال لا يستطيع الجسد التخلص منه إلا بعد خمسة أو ستة ايام. لكن الأسوأ هو العودة الاضطرارية لتناول الشوكولا المسممة ذاتها. فليس لدينا خيار آخر! اما إن آلت أحوالك إلى المستشفى؟ فستواجهك مصائب أخرى من نوع عدم وجود الطبيب المختص أو عدم توافر الدواء اللازم أو ان يكون "الطبيب".. بالخبرة!
وبأية لحظة وانت تخرج بجنازات جماعية لأناس تعرفهم ولا تعرفهم لكن جمعك بهم الهمّ والجوع والخوف والانتظار، واذ تتوقف سيارة فجأة لِتُنزَل منها توابيت عدة لأناس قد قضوا جوعاً بسوء التغذية. هكذا، توضعُ التوابيت في الشارع. يصلى عليها ومن ثم يصبح التشييع جماعياً.
حكاية لا تنتهي: نعض على الجرح ونقول غداً قد يأتي الفرج.
في هذه الأثناء يحصل أمامك مشهد مثل هذا: يحاول أحد الشبان توزيع "كاسات الكريما" على الأطفال الجوعى للحلو، كنت أسير سارحاً في شارع اليرموك و إذ بضجة وصراخ آتيين من جهة تجمع فيها أطفال كانوا يتزاحمون ويصرخون "أنا عمو... منشان الله"! وآخر يقول: "أنا إجيت قبل... الله يخليك" جلست على مقربة أتابع المشهد: السماء غائمة رمادية اللون والأطفال بملابسهم الرثة التي لا تكاد تقيهم برد الشتاء، وشعرهم الفوضوي، واقدامهم الحافية، وبأجسادهم الهزيلة كفراخ العصافير كانوا يتجمهرون حول الشاب على أمل نيل كاسة الكريما المجانية. هكذا، أقبل الشاب بصينية الكريما وبدأت الأيدي الصغيرة المتزاحمة تمتد لجهة الشاب وهو يصيح: "كلكم ستأخذون لكن اصطفوا بانتظام". الا ان كلامه ذهب سدى أمام أيادي تلك الفراخ الممتدة بإصرار الجائع. لمحت طفلاً أخذ كاسة الكريما، الا انه، وبدل أن يهم بأكلها، وضعها إلى جانب الرصيف وعاد إلى زحمة الأطفال أملاً بنيل كاسة أخرى. إنها الكوميديا السوداء. ثم، خرج طفل آخر بيده كاسة الكريما، الا ان أخته خلفه كانت تبكي لعدم استطاعتها الحصول على كاستها المنشودة. هكذا، نظر أخوها فاكتشف تلك الكاسة المركونة إلى جانب الرصيف، فما كان منه الا ان أخذها وأعطاها لأخته التي أخذت تأكلها ودموعها على خديها.
ومن ثم.. خرج الطفل صاحب الكاسة الحقيقي، وأمارات الخيبة على وجهه لأنه لم يستطع الحصول على كاسة ثانية لنفاذ الكمية. وحين اكتشف اختفاء الكاسة؟ أخذ يحوّم بحيرة مفتشاً مثل الأم التي أضاعت طفلها! وعندما يئس من العثور عليها وايقن ان أحداً اخذها، جلس على الرصيف واخذ يبكي بحرقة.
هل كان علينا أن نزحف كما النمل لنحصل على السكر؟ أم أن هناك من كان يريد لنا أن نزحف ليرش لنا السكر؟
كثيراً ما أسال نفسي : هل كل الذين واريناهم الثرى جوعاً، أغمضوا أعينهم وهم يشتهون رؤية غودو السكر الأبيض؟ هل أتاهم يا ترى في اللحظة الاخيرة على هيئة ملاك ليضع تحت ألسنتهم قبل أن يغمضوا أعينهم، ذرة من السكر؟