حتى الآن، لم تتفق وجهة النظر التركية مع تلك الأميركية بخصوص الاستراتيجية المعلنة لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». فيما يؤكد المسؤولون الأميركيون أنها حرب طويلة ضد «الإرهاب»، ما يعني أنها ستبقى مستعرة في الشرق الأوسط لسنوات، ترى أنقرة أنها «حرب بلا جدوى» ستطول لتصبح مجرد غارات عبر طائرات من دون طيار، مثلما تفعل الولايات المتحدة في باكستان واليمن.لقد رفض الأميركيون والأوروبيون، حتى الآن، التدخل البرّي في سوريا والعراق، واكتفوا بغارات جوية، منذ قمة «حلف شمالي الأطلسي» الأخيرة التي عقدت في ويلز في شهر أيلول الماضي وحتى قمة بروكسل الأخيرة.

حاول الغرب تشجيع تركيا على التدخل البرّي، الأمر الذي عارضته الحكومة، ووجد فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خطةً لإضعاف حزب «العدالة والتنمية» في الحكم. ساد العجز بين أعضاء «التحالف» في الاتفاق على استراتيجية موحدة وصارمة لمواجهة التنظيم، حيث شددت واشنطن على ضرورة الوقوف جنباً إلى جنب لمحاربة الفكر المتطرف بزيادة المجهود العسكري، ووقف تدفق المقاتلين الأجانب، وتجفيف منابع وطرق تمويل التنظيم، ومعالجة مشكلة المساعدة الإنسانية، في وقتٍ أكدت فيه أنقرة أنها التزمت بوقف تدفق المقاتلين، مشددةً على تقديم مساعدة لوجستية وإنسانية، إذ تعتقد بأن انغماسها في هذه الحرب ضد «داعش» ستكون له انعكاسات أمنية وسياسية داخلية، لكونها كانت المسرح الأساسي لتجمّع المقاتلين، طارحةً في المقابل إقامة منطقة عازلة، رأت واشنطن أن طرحاً كهذا ليس موضوعاً ملحاً وهو سابق لأوانه «اليوم، ما اعتبر «ضربةً» لكل مقترحات تركيا بهذا الشأن.
لم تنسَ تركيا أن الأوروبيين والأميركيين شجعوا حزب «العدالة والتنمية» الحاكم على المضي في التدخل في دول «الربيع العربي»، حتى تمثل نموذجاً للإسلام المعتدل. كذلك، لعب الغرب على طموحات أحمد داود أوغلو وعلى أردوغان االراغب في لعب دور محوري في المنطقة. ولكن، بعد بروز علامات فشل الدول المعارضة لدمشق في إسقاط النظام السوري، بدأت واشنطن في تغيير موقفها. في هذا الوقت، كانت تركيا قد انغمست حتى أذنيها تدريباً وتسليحاً واستقبالا للمجاهدين.
تشعر القيادة التركية بأن واشنطن لم تقدّم لها أي مكسب سياسي لغاية اليوم. لذلك هي لم تبدِ حرصاً على قتال «داعش»، بل حاولت الاستفادة من وجودها قدر الإمكان، على الرغم من زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي حاول إقناع أردوغان بضرورة تغيير سياسته، من دون جدوى.
غير أن ظهور المتغيرات في المنطقة وإعادة تموضع القوى الإقليمية والدولية، أجبرا تركيا على «ترشيق» موقفها المعادي للنظام السوري، عبر الدفع بحلفائها في أوساط المعارضة السورية، بصورةٍ غير مباشرة، إلى فتح حوار مع النظام، وذلك بعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنقرة، قبل أسبوعين، مع العلم بأن الأميركيين شجعوها على هذه الخطوة، فيما هم يدرّبون خمسة آلاف مقاتل من المعارضة السورية، «من أجل قتال داعش»، كما يدعون. ولا تتردد الولايات المتحدة في القول إن الرئيس السوري بشار الأسد والنظام لا يمكنهما أن يكونا جزءاً من مستقبل سوريا، لكنها ترى أن الأولوية اليوم هي لقتال «داعش».
هذا الأمر عكسته المعارضة المسلحة التي اعتبرت أن التوجه نحو حلّ سياسي مع الدولة السورية وقتال تنظيم «الإسلامية»، هما أولوية، ما يعني انقلاباً في مواقف المعارضة «المعتدلة» المدعومة من الأميركيين وتركيا وقطر والسعودية. وليس من قبيل الصدفة أن تأتي جهود نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، المكثفة للوصول الى الحل السياسي مع مبادرة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الذي يساهم في تجميد الصراع في مدينة حلب بين الجيش السوري والفصائل الإسلامية، كخطوة أولى للتهدئة، وموافقة تركيا التي كانت تخشى هزيمة المعارضة في حلب ولجوء أعداد كبيرة من السوريين إليها.
تعيد أنقرة إذاً التموضع، في ظلّ تصريحات بوغدانوف في دمشق وإصراره على شرعية الرئيس الأسد والسعي إلى الاتفاق معه، وذلك عقب لقاء بوتين بأردوغان، إلى جانب مبادرة موسكو التي تنصّ على جمع المعارضة السورية مع النظام من أجل الحوار ودعوة قمة مجلس التعاون الخليجي إلى العودة للحل السياسي في سوريا. كل ذلك، حمل تركيا على تليين موقفها. ولكن مقابل ماذا؟ هل ستصبح تركيا، بعد الاتفاقيات المبرمة أخيراً مع روسيا، مركزاً أساسياً لتوزيع الطاقة إلى أوروبا، لتحصل على مكاسب اقتصادية مهمة تجعلها قطباً لا يمكن الاستغناء عنه؟
تظهر التغيرات الأخيرة أن رياح التغيير قادمة على السياسة الخارجية التركية. لكن السؤال يتركز على ماهية هذا التغيير الذي يمكنه أن يأتي عبر هذا الحوار المنتظر؟ هل سينجح في إعادة ترتيب الوضع السوري وعلى أي قاعدة؟ ومن هي الدول الإقليمية التي ستستفيد من إعادة الأمن إلى سوريا؟ وفيما يركّز التحليل على ظاهر التحركات السياسية، هل هنالك اتفاقيات بهذا الشأن تعقد من تحت الطاولة؟