تغيبُ الشّمس خلفَ الأصوات التي كانت تهدرُ قبل قليلٍ؛ بعد تظاهرةٍ حاشدة عادت للتّو من السفارة السعودية في الحيّ الدبلوماسي في المنامة. يحلّ الظلام. تبدأ أعدادٌ كبيرة من المعتصمين بالخروج من «دوّار اللؤلؤة» وبتفقّد مناطقها وبلداتها مع دخول قوات «درع الجزيرة» البلاد، وبعد شيوع صور الدّماء... ورأس أحمد فرحان الذي فجّرته رصاصات الجنود السعوديين.الرّياحُ كانت شديدةً تلك اللّيلة، كأنها تريد أن تُرسِل إنذاراً مبكراً للمعتصمين. خيمُ المعتصمين كانت تتطاير من شدّة البرودة. احتشد جمعٌ من المعتصمين عند منصّة الدّوار، وبدأت الأدعيةُ ترتفع إلى السماء.
يقطع سيل الأدعية صوت عبد الجليل السّنكيس (البروفسور الجامعي المحكوم بالمؤبد) الذي صعد المنصّة، وجدّدَ العهد بطريقته المعروفة، وهو صاحب اختراع ثيمة «صمووود». تختفي كل الأصوات، عدا المناجاة التي توزعت على كل الخيم، وفي مختلف الزوايا.
كان دعاء «يا منتقم» يرفرف من وسط الدّوار باتّجاه اللؤلوة، التي سيكون ذلك المساء آخر عهد لها بهذه الأصوات، قبل أن تُهدَم، ويجري «إخفاء» الذكرى «الأليمة»، كما عبّر وزير خارجية «آل خليفة».
يخفت الصوت أكثر... عدا هدير الرياح التي بدأت تشتعل في كل الجهات.
وحيداً في خيمة الإعلاميين. أشحنُ «اللابتوب والموبايل» بأقصى ما يمكن من الطاقة. مقال جريدة «الأخبار» يتعسّر أن يخرج من رأسي، وعلى غير العادة. لا بد أن أتحرّك قليلاً. أصعدُ السيارة، أجول حول الدّوار مخترقاً أسوأ ظلام دامس يمكن أن تلمسه العيون. شبان يتوزعون حول الدّوار، يحرسون المعتصمين من غدْر المليشيات والجنود الأجانب.
أعود إلى الدّوار. هادئاً على غير العادة، إلا من الرياح التي تشتدّ أكثر، ومن همسات المتهجّدين. أعودُ إلى الخيمة. لا أحد. الخيمة تكاد أن تطير في الهواء، لولا الإنارة التي كانت تعطيني الأمان، أو بعضه. أشحنُ من جديد، وأفتح «اللابتوب». ينتهي المقال بسرعة مع قرب الفجر. أنقله إلى «الموبايل»، ومنه إلى «إيميل الأخبار».
أعود إلى السيارة. أرقد فيها قليلاً. الرياح شديدة. أتابع الأخبار عبر «تويتر». استقالاتٌ متتالية للوزراء والقضاة، وتقدّمٌ دمويّ لقوات «درع الجزيرة». أوّل لون للصباح كان هدير الطائرة. شبّان يلحّون على النساء للانسحاب. النار ترتفع من الخيم، والأصوات المنادية «يا منتقم» لا تزال تقاوم من المنصّة حتى آخر قَدم للجنود الذين دخلوا محيط الدّوار.
أرى صديقاً يُعاني عجزا في قدمه يحاول أن يُقاوم الخوف، ويسحب بعض الصناديق لإعاقة تقدّم الجنود. على بُعد ثلاثة أمتار، أو أكثر بقليل، يتقدّم الجنود. أُحرّك عيني من جديد ناحية الصديق، فأرى وجهه مكتظاً بالدّماء، لكنه لا يتحرك من مكانه.
أنظرُ بين مسافتين، من خلفي مباشرةً سيارتي المركونة عند أقرب نقطة للدّوار، وأمامي جنودٌ يقتربون ويطلقون الموت. هديرُ الطائرة يعجز عن إخفاء صوت النساء اللواتي يستحلفن على الشباب الانسحاب، وإلا فسيبقين معهم في الدّوار، أو أطرافه.
يبدأ الانسحاب، وأنا لا أدري ما أفعل. أأتحرّك بقدمي، أم أذهب للسيارة؟! ثلاثة أمتار من المسافات كانت كافيةً لاتخاذ قرار قَدريّ. إلى السّيارة. هل كان اختياري الانسحاب بالسيارة هزيمةً، أم شعوراً باليأس؟ لقد انسحب أكثرهم، وتركوا سياراتهم مكانها، كأنهم يقولون إننا عائدون من جديد يا «ميدان الشّهادة»، الوصف اللاحق لـ«دوّار اللؤلؤة». اختياري السيارة سيُمثّل، طوال ذلك اليوم، وجعاً لا ينفكّ يكسرُ المشاعر المكثفة داخلي.
طريق الانسحاب كانت دماء. أرجعُ إلى الأرشيف لأرى تغريداتي في تلك اللحظات. كنت أبحثُ عن مكان. علي الديري (الذي سُلبت جنسيته في شباط 2015، ويحلّ الآن في كندا لاجئاً) يدعوني إلى منزله، لكنّ مقالاً آخر يتزاحمُ في رأسي، ولا يكفّ عن الهدوء. أتوقّف في وسط الطريق، أفتحُ «اللابتوب». البطارية تتضاءل بسرعة كأنها تُعاندني، أو أنها تقترح عليّ التحرّك بسرعة من الطريق التي سيسقط فيها، بعد قليل، شهيد خرج من سيارته مواجهاً الجنود بدباباتهم.
يقترح عليّ أصدقاء أن أسلك، بسرعة، طريقاً لم يُغلق بعد للتّوجه مباشرةً إلى مكان آمن. أستقرّ في بلدة كرزكان، وأبيت عند أطيب الناس.
صورة الدّوار في آخر ليلة له لا تزال محفورةً في الذاكرة. مشهدُ الخيم وهي تتطاير في الليل من شدّة الرياح، ثم تتطاير نهاراً مع ريح الطائرات والنيران المشتعلة... هو المشهد الذي سيظل يسكن في داخل كل الذين شهدوا ليلة ويوم الإخلاء الأخير للدّوار.