غزة | كما «لا يحسد المال إلا ملاكه»، لا يحسد بحر غزة إلا أهله. البحر صاحب الحكايات الحزينة كان قصة كبيرة في بنود وقف الحرب الإسرائيلية على القطاع، إذ حلم الفلسطينيون بأن يبنوا عليه ميناء يحملهم إلى العالم، لكنهم أمام هذا التمني الكبير ركزوا جهودهم على توسيع مساحة الصيد إلى 12 ميلاً بحرياً بعدما كانت محصورة بقوة الاحتلال والنار بثلاثة أميال. وما بين عشرين ميلا أقرتها أوسلو، و12 طالبت بها المقاومة، سمح الاحتلال بعبور الصيادين نحو ستة أميال فقط، وظل يضيّق على الصيادين الغزيين اعتقالاً وتخويفاً، وبتخريب مراكبهم، حتى صارت الأميال الستة لا تتعدى في أحسن أحوالها أربعة أو ثلاثة.
بين الأرقام ضاع الأمل في تحقيق الإنجاز، فيما كان العالم ينظر بغبطة في الأيام الأولى ما بعد الحرب إلى كمية الأسماك الوافرة التي جناها الصيادون هنا، ولاحقاً أخبار تصدير بعض الكميات إلى الضفة المحتلة. لكن ما خانت به الذاكرة بعد 51 يوماً من القتل أن هذا البحر نفسه كانت بلديات القطاع قد أغلقته أمام المصطافين قبل الحرب، بسبب وصول نسبة التلوث فيه إلى أكثر من 90% (راجع العدد ٢٣٢٩ في ٢٧ حزيران).
بالتأكيد، هذا التلوث لم يزل في الحرب أو بعدها، لأن آثار الحصار المستمرة تمنع البلديات من أداء مهماتها جيداً، وهو ما يعني استمرار الأزمة. والمفاجأة أنه في المنطقة التي حصر فيها الاحتلال الصيادين الفلسطينيين تتركز نسبة التلوث الكبرى، بل وصلت إلى حد الميلين البحريين وفق مصادر متقاطعة تحدثت لـ«الأخبار». ففي تلك المساحة الضيّقة تخفي مياه البحر كمية كبيرة من الملوّثات والمواد الكيميائية السامّة، التي تتركز بسبب شدة ما يضخ فيها من مياه الصرف الصحي، غير المعالجة أو المعالجة جزئياً. وتحمل هذه المياه الملوثة غذاءً محبباً للسمك، لكنه سامّ لكثير من أنواعها، ثم البشر.
يذكر مدير دائرة التوعية البيئية في سلطة جودة البيئة، أحمد حلس، أنّه يومياً تُضَخّ 120 مليون لتر من مياه الصرف الصحي على شاطئ القطاع عبر عدّة مضخات على طول الساحل، ونصيب غزّة وحدها «نحو 60 إلى 70 مليون لتر». ويقول لـ«الأخبار»: «الأسماك تنجذب إلى المواد التي تحملها مياه الصرف وتعتبرها مصدر غذاء لها، لكن هذه المياه محملة بعناصر ثقيلة ومواد سامة».
وكان حلس قد نشر في عدد من المجلات العالميّة دراسات بيئيّة سابقة بتلوّث بحر غزة، وأظهر اكتشافه وجود طفيليات ومواد كيميائية وحيوية تتعايش مع الأسماك التي تُصطاد على شاطئ غزة، مشيراً إلى أنّ وجود الميكروبات لا يؤثر في السمك بقدر ما تضرها المواد السّامة. وفي تقديره أن ثلاثة أميال لا يكاد الصيادون يبحرون فيها تعاني مساحة ميلين منها من التلوّث فعلياً.
ويشرح المسؤول في سلطة البيئة أن البلديات تضخ نفايات المنازل والمصانع والمتاجر وكلها مختلط بعضها ببعض، «وتتجه إلى البحر في خط المجاري نفسه، وهو ما يشكّل خليطاً مركزاً من النفايات العالية السميّة التي تهدّد الحياة البحرية».
لا يبحر الصيادون إلا في 3 أميال من أصل 6 بسبب تضييق الاحتلال


ومن تلك المواد النيكل والكادميوم والكوبل والزرني،خ إضافة إلى الحديد والنحاس، وكلها تتراكم في أجسام السمك بتركيز عالٍ، وهو ما يزيد احتمالية إصابة الإنسان الذي يتناولها بأمراض مميتة كالسرطان، وخاصة إذا تناولها لمرّات متتالية.
وسمك «البوري» أحد الأنواع الرئيسية التي يعتمدها أهل غزّة في غذائهم، وهو من أكثر الأسماك تغذيّاً على الفضلات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سمك «القريص».
من ناحية أخرى، تلوّث مياه البحر مع تكاثر الطحالب فيها، وخاصة أنها اتخذت شكل أكوام تسبب بدورها القضاء على الحياة البحريّة. ويؤكد مفلح أبو ريالة، وهو عضو نقابة الصيادين في غزة، رصدهم لتلوث البحر بهذه الطحالب، مشيراً إلى أنّ «معظم طرق الصيد في القطاع غير سليمة... مع أن وزارة الزراعة والشرطة حاولتا منع الصيد قرب مصبّات المياه العادمة، فإنه لا يوجد بديل أو مكان صحي للصيد بسبب قلّة المساحة المسموحة».
ويضيف أبو ريالة لـ«الأخبار»: «صعوبة الاصطياد تدفعنا في مرّات كثيرة إلى اصطياد أسماك البزرة بطريقة الجرف، وهذا محرّم دولياً، لأن البزرة هي في الأساس غذاء للأسماك». لكن بعض الصيادين يرون أنّه لا خيار أمامهم، ومنهم طلال بكري الذي قال: «طوال عمرنا نصطاد على التلوث، فما هي المشكلة؟»، مضيفاً: «لا مخرج لنا ولا مساحة»، فيما يقول زميله أحمد أبو الخير: «لا خيار أمام كل صياد سوى أن يخرج السمك بأي طريقة... كلّ مياه البحر ملوّثة. حتى الميناء الذي نجمع فيه الأسماك ملوّث، والكل يعلمون ذلك».
ولم يبق حل أمام هذه الحالة سوى السماح للصيادين بالدخول إلى مسافات أعمق في البحر، ومن الأصل العمل بتوصيات المتخصصين عبر معالجة المياه العادمة التي تضخ على شاطئ البحر بوسائل ناجعة وفق المواصفات الدولية، لتكون قابلة للتحلل في المياه وأقل خطورة.