غزة | بعدما كشفت الأيام ما كان خافياً، يتبين أن إعادة إعمار قطاع غزة ستكون صفقةً رابحة عند جهات عديدة، أولاها السلطة الفلسطينية التي من المفترض أن يرفّ جفنها أمام مشهد النازحين البائتين في العراء، لكنها التفّت على تلك الصفقة «المجزية» عبر ذراعين استثماريتين هما صندوق الاستثمار الفلسطيني، والمجلس الاقتصادي للتنمية والإعمار المسمى «بكدار». عبر هاتين الذراعين ستُضَخّ أموالٌ طائلة في جيوب شركة «نيشر» الإسرائيلية التي تتعاقد معها السلطة لاستيراد مواد البناء وخاصة الإسمنت، فيما تكمل تقاسم الكعكة وكالة «غوث» اللاجئين (الأونروا).
هذا الثلاثي (إسرائيل والأونروا والسلطة) لم يُقم حتى الآن أدنى وزن للبرد الذي يسري في دماء النازحين التائهين، فكلّ ما يهمّه الأرباح على حساب الدماء التي سالت بغزارة طوال 51 يوماً، وخصوصاً السلطة، التي زاوجت في «الصفقة» بين السياسة ورأس المال عبر شركتين، «إعمار» و«سند»، فيما «الأونروا» تقود شرعنة الحصار وتقنينه بذريعة «الرقابة على مواد البناء ذات الاستخدام المزدوج».
وبعد الخضوع لشروط العدو في تفاصيل التفاصيل، وخاصة أنظمة المراقبة (راجع العدد 2445)، تُبرز الرقابة الأمنية المحكمة تراجعاً دراماتيكياً في دور الأمم المتحدّة، وذلك مقارنة بخطة الإعمار بعد حرب 2008 التي لم تشترط الفحص الأمني. لقاءَ ذلك الدور، وبموجب خطة «روبرت سيري» (المبعوث الأممي)، ستبقى منازل عائلات المقاومين أكواماً من الركام باعتبارهم «ذوي ملفات أمنية» لدى إسرائيل، فيما ستقبض «الأونروا» نحو 20% من أموال الإعمار قبل توزيعها على أنها مكافآت لنشرها 250 ما بين مفتشا دوليّا ـ 500 مفتش دوليّ، مهمتهم تنفيذ الرقابة.
كذلك تحاول «الأونروا» حجز المقعد الرئيسي في استقطاع أموال الإعمار، فهي أصدرت أخيراً تصورّاً شاملاً تسوّق فيه قدرتها على بناء 14 ألف منزل خلال عامين، مرتكزة بذلك على «خبراتها المتراكمة» في بناء التجمعات السكنية كالحي السعودي والإماراتي والهندي والياباني في غزة. وعُلم أيضاً أن رفض ثلاثين مؤسسة دولية إعادة إعمار المنشآت المتاخمة للحدود الشرقيّة، لا يندرج إلا ضمن منظومة إعادة تشكيل القطاع على نحوٍ يصعّب تطويع البنية التحتية لمصلحة المقاومة، وهو ما يفسّر جنوح تلك المؤسسات إلى تنفيذ مشاريعها تحت بند الإغاثة والإنعاش لمدة 18 شهراً بدءاً من الشهر الماضي، وذلك بمعزل عن مشاريع تأهيل المنازل المدمّرة.
ستحصل إسرائيل على 70%
من الأرباح، و«الأونروا» على 20%، والباقي للسلطة


في السياق، يدافع مصدر رفيع المستوى في «الأونروا» عن موقفها، بالقول إنّ «الأمم المتحدة لم تصغ الخطة وحدها، لأنها نتاج مفاوضات طويلة بين الوفد الفلسطيني بقيادة رئيس الوزراء رامي الحمدالله، والوفد الإسرائيلي برئاسة منسق أعمال حكومة الاحتلال يواف مردخاي، وكان حضور الأمم عبر ممثّل وحيد عن مكتب روبرت سيري». وشدّد المصدر، في حديثه لـ«الأخبار»، على أنّ «الخطة لم تقرّ إلا بعد موافقة حركتي فتح وحماس عليها، بدليل أن عضو المكتب السياسي للأخيرة، موسى أبو مرزوق، عبّر عن استغرابه من المعترضين على الخطة». (راجع محضر اجتماع أبو مرزوق وسيري في الموضوع الثاني).

لإسرائيل حصة الأسد

وتكشف الأرقام أن الشركات الإسرائيلية ستتربّح من وراء الإعمار ما مقداره 70% تصب غالبيتها في جيب شركة «نيشر»، فضلاً على عدد من مصانع المستوطنات. هذه الشركة التي دُشّنت في حيفا عام 1925، وهي المنتج الأقوى للإسمنت في إسرائيل، ستحتكر تزويد القطاع المدمّر بمواد البناء بعد تهميش دور الشركات المصرية (العدد ٢٤١٦ في ١١ تشرين الأول). والمفارقة أن الضفة المحتلة التي تختنق بالجدار الفاصل والمستوطنات كلّها مشيدة بإسمنت تلك الشركة.
عند السؤال عن سبب التزام السلطة التعامل مع هذه الشركة يمكن تذكر أن اتفاق «أوسلو» وبروتوكول «باريس» الاقتصادي يكرسان تبعية الاقتصاد الفلسطيني لنظيره الإسرائيلي، إذ ثمة عدّة اتفاقات توجب على رام الله استيراد الإسمنت حصرياً من «نيشر» بواسطة «الشركة الفلسطينية للخدمات التجارية» (المسماة سند حالياً)، بل حين الرغبة في الاستيراد من أي دولة أخرى، يجب استجداء الموافقة الإسرائيلية لذلك.
الأرقام نفسها توضح أن الشركة الإسرائيلية تلبي 80% من حاجة الضفة وغزة للإسمنت، وقد جسّ الاحتلال نبض الغزيين بإدخال 600 طن من الإسمنت بالقطارة (18% من الاحتياج اليومي) لمرة واحدة الشهر الماضي، وتحديداً يوم زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إلى غزة، كما ظلّت هذه الأطنان المحدودة حبيسة المخازن لـ15 يوماً قبل أن يُفرج عنها وينال المتضررون حصة أقل من المطلوب. ويقدر المحلّل الاقتصادي، ماهر الطباع، لـ«الأخبار»، أنّ «ما وصل القطاع منذ وقف الحرب حتى الأسبوع الماضي لا يتجاوز 20% من مجمل الاحتياج اليومي للإسمنت»، مؤكداً أنه فور تسلّم أموال إعادة الإعمار، «ستكون الحصة الكبرى للعدو الإسرائيلي، إضافة إلى استقطاع نسبة أخرى للمشاريع الدولية».

«سند» وعطش المال

بالعودة إلى السلطة، من المهم معرفة تاريخ «سند» المنضوية تحت جناح «صندوق الاستثمار الفلسطيني» ويديرها حالياً لؤي قواس. ويبدو أن الشركة عرفت كيف تلتقط توقيتاً حساساً لتوسّع دائرة عملها، وتأكل سوق الإسمنت على حساب التجار الغزيين، وهي كانت قد تأسست عام 1994، وتصنف على أنها الوكيل الحصري لـ«نيشر»، كما أعادت هيكلة عملها أخيراً وبدّلت اسمها إلى «سند للصناعات الإنشائية»، والهدف من ذلك القفز من المجال الخدماتي إلى الإنتاجي. وثارت شركات غزة حينما حددت «سند» 12 شركة حصريا لتوزيع الإسمنت متذرعةً بالقيود الإسرائيلية، برغم التزام معظم الشركات قائمة الشروط التي فرضتها خطة «سيري». ولم تكتفِ «سند» بهذا الحد من «استغفال التجار»، بل وقّعت عقوداً مريبة مع الشركات التي جرى اختيارها، واشترطت على أصحابها استيراد جميع المواد الإنشائية منها حصراً برغم أحقيّتها بوضع القيود أمام استيراد مادة الإسمنت فقط، فضلاً على أن مربح شركات القطاع من كل العملية لا يبلغ ستة دولارات على الطن الواحد من الإسمنت.
وكان مدير «سند» (قواس) قد زار غزة أخيراً، ويبدو أنه سعى إلى رفع قيمة أرباح شركته على حساب التجار، وفي سبيل ذلك نفّذ جولات ميدانية واسعة في مصانع الباطون، وعقّد اتفاقات مع أصحابها لإعادة تأهيل مصانعهم لقاءَ الاستحواذ على نسبة تتجاوز 25% من رؤوس أموالها!

صراع صندوق الاستثمار و«بكدار»

قبل أن تستحوذ «سند» (التابعة لصندوق الاسثمار) على «امتياز الإعمار»، دارت حرب خفيّة بينها وبين المجلس الاقتصادي للتنمية والإعمار «بكدار»، علماً بأن المؤسستين تستندان في نفوذهما إلى السلطات التنفيذية الفلسطينية، وتعدّان مثالاً صارخاً على تضارب المصالح وتداخل السياسة بالمال والأعمال في رام الله، وكلتاهما أعدت خططاً «مسلوقة» لإعادة الإعمار بهدف الاستحواذ على النصيب الأكبر من الكعكة.
ويذكر الخبير الطباع أنّ «بكدار» بعد أيام معدودة جداً من انتهاء الحرب «عرضت خطتها المكوّنة من 200 صفحة على الإعلام، وهو ما يثير الشكوك في آلية إعداد الخطة والهدف من الاستعجال»، وذلك مع الإشارة إلى أن وزارة الأشغال الفلسطينية أعلنت، قبل أيام، انتهاء مرحلة حصر أضرار الحرب الإسرائيلية على غزة!
ويدير «بكدار» حالياً عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، محمد اشتية، وذلك بعدما أنشأتها منظمة التحرير عام 1993 لتنفيذ مشاريع البنية التحتية وإعداد دراسات حول احتياجات المدن الفلسطينية. ويتضح من تقرير أعده «ائتلاف «أمان من أجل النزاهة والمساءلة» (مجتمع مدني) أن «بكدار» ليست سوى امتداد طبيعي للسلطة، وهو ما يفسر ضعف الرقابة المالية والإدارية عليها، ويكفي في ذلك أن مجلس إدارتها لم يلتئم منذ نحو 15 عاماً.
في المقابل، ينازع صدارة الإعمار صندوق الاستثمار الذي يديره الآن نائب رئيس الوزراء، محمد مصطفى، والأخير أثيرت حوله قضايا فساد مالي كبيرة، ومن هنا يظهر تضارب المصالح في قضية إعمار غزّة، إذ يسعى مصطفى إلى تولي مجموعة (إعمار)، الذراع الاستثمارية للصندوق، عملية الإعمار، إلى جانب الأرباح التي ستجنيها «سند» التابعة للصندوق نفسه. وكل مظاهر الفساد التي يجري الحديث عنها حول الصندوق (راجع الكادر) تدل على حجم «الغنائم» المالية التي سيحصل عليها الصندوق إذا دارت عجلة الإعمار تحت يديه.
تعقيباً على ما سبق، يقول رجل الأعمال الفلسطيني أسامة كحيل، إنّ «صندوق الاستثمار سيغيّب مؤسسات القطاع الخاص في الإعمار تماماً كما يحدث في الضفة، حيث استثمارات الصندوق المكثّفة في المشاريع السكنية الراقية تسحب البساط من أقدام الشركات الخاصة». ويوضح لـ«الأخبار» أن «خطة الإعمار لا يمكن أن تُقرأ إلا باتجاهين، أولهما غباء جميع الجهات التي وافقت على الخطة، وثانيهما أنها مؤامرة محوكة ضد غزة تشترك فيها الجهات نفسها». ولا يستثني كحيل أحداً من الفساد المنضوي في قضية الإعمار، مؤكّداً أن «السلطة بكل وزاراتها وأذرعها، وحماس أيضا، وافقت على الخطة بجميع تفاصيلها، ثم جاءت مباركة الفصائل التي لم تنطق بشيء حيال ذلك، إلا بعد قضية كاميرات المراقبة»، متسائلاً باستنكار: «أليس هذا تنسيقاً أمنياً مع العدو؟ كيف نقبل على أنفسنا أن نكون عملاء لإسرائيل بالوكالة؟».





صندوق الاستثمار وحكايات الفساد

برغم أن صندوق الاستثمار الفلسطيني أنشئ عام 2003 ليكون شركة مساهمة عامة محدودة من الشعب الفلسطيني ومستقلة من الناحيتين المالية والإدارية، فإنه صار متهماً بالفساد منذ تولي إدارته محمد رشيد (خالد إسلام)، المستشار الاقتصادي السابق للرئيس الراحل ياسر عرفات. وبدلاً من أن يؤسّس الصندوق فكرة اللامركزية للسلطة التنفيذية، ومنع تدخلّها تعسفيا في القطاع الخاص، بات يهيمن على الاقتصاد المحلي وينافس المؤسسات الخاصة، وهو ما تجلى بحرمان شركات غزة الاستفادة من إعادة الإعمار. يؤكّد عدد من رجال الأعمال أن هذا الصندوق بات ملحقاً بالرئاسة منذ 2007، ويستخدم الآلات المملوكة لمختلف الوزارات بطريقة غير قانونية، عدا استفادته من أراضٍ صودرت من السلطة عن طريق مرسوم رئاسي من دون دفع نفقات مقابل ذلك، بل يضطر بعضهم إلى تقديم أموال طائلة لمصلحة ميزانية التشغيل الخاصة برئيس السلطة، محمود عباس، لقاء الحصول على تصاريح بناء.
(الأخبار)