تحاول رشا الحريري التهرّب بشكل لبق من الزبائن الذين يرتادون صيدليتها يومياً، ويطالبونها بتأمين أدوية تخرجهم من حالتهم النفسية المتردية. تلحظ بوضوح تضاعف عدد الأشخاص الذين يشترون مضادات الاكتئاب، وعدد الأشخاص الذين باتوا يطلبون شراء أي دواء يخرجهم أو يخرج أحد أقاربهم من حالة «الإضراب» عن النوم أو العزلة أو حتى محاولة الانتحار»، علماً بأنه يمنع صرف الأدوية المضادة للاكتئاب إلا بوجود وصفة طبية.
تتدلى رهام غالب من شرفة المنزل الذي تسكنه، محاولة القفز من الطبقة الرابعة، فهي «لم تعد تخشى الارتفاعات كما كانت من قبل، أو بالأحرى فقدت معظم مشاعرها» بحسب والدتها. فهذه هي محاولتها الثانية في الانتحار، ففي المرة الأولى «حاولت تناول كمية كبيرة من الأدوية، وقمنا بإسعافها وخضعت لغسيل معدة». رهام سيدة في الرابعة والعشرين من عمرها، حوصرت في إحدى المناطق مع زوجها وطفلها الرضيع، وقتل زوجها أمامها وبقيت مع جثته يومين كاملين في الغرفة نفسها. ومنذ ذلك الوقت، ترفض مقابلة الأصدقاء والأقارب، وخاصة ممن هم من طرف زوجها.
حاولت تناول كمية كبيرة من الأدوية وقمنا بإسعافها

«ضحية» أخرى، اسمها ماجد (اسم مستعار). يزور الرجل عيادة طبيب نفسي على نحو منتظم بعدما عانى من أعراض اكتئاب حادة، فقرر فريق المتابعة النفسي في مركز الإيواء أن الجلسات التي يقيمها الفريق في المركز غير كافية لعلاج حالته، حيث بات عدوانياً جداً تجاه زوجته وأطفاله. يصف ماجد وضعه: «تهدم منزلي وهجرت من مدينتي، فقدت عملي وقطعت ساقي نتيجة سقوط قذيفة بجانبي، عانيت من آلام في صدري وأصبحت عصبياً جداً، إضافة إلى أنني عدت إلى التدخين». ويضيف: «مثلي لماذا يعيش. أنا عاجز وأصبحت عالة على عائلتي. الموت لمثلي يكون أشرف من الحياة».
الاكتئاب ليس مرضاً استثنائياً أو طارئاً، فبحسب استشاري الطب النفسي وخبير الصحة العقلية الدكتور جميل ركاب، فإن «ااكتئاب مرض شائع يصيب أي إنسان، ولو قمنا بدراسة على أي مجتمع في أي لحظة لوجدنا أن نسبة انتشار ااكتئاب هي بحدود 5%، لكن ترتفع نسبة الإصابة خلال حياة الشخص لتصل إلى 25%». وهذا يعني وفقاً لتقديرات الدكتور ركاب «أن واحداً من أربعة أشخاص إما كان مكتئباً في الماضي، وإما هو مكتئب حالياً، وإما أنه سيكتئب في المستقبل. وأن واحداً من ثمانية أشخاص سيكون لديه ما نسميه الاكتئاب الكبير أو اﻷساسي، وبالطبع يزداد احتمال إصابة الناس بالاكتئاب مع الضغوط التي يعانونها».
تزداد الاضطرابات النفسية وقت الأزمات والحروب لتصل من 20 إلى 25%، وفي حرب كالحرب السورية، لجهة عمرها الطويل وتأثيرها على مختلف جوانب الحياة والعدد الكبير من الوفيات وتدمير البنى التحتية والتفكك الأسري والمجتمعي، فقد يصل عدد المتضررين الذين يعانون من اضطرابات نفسية إذا أضفنا إليهم الأشخاص الذين يعانون ضغطاً نفسياً ويحتاجون إلى دعم اجتماعي ونفسي إلى حوالى 50% من السكان، بحسب تقديرات الدكتور ركاب... «وهذا بالطبع رقم كبير يستوجب زيادة عدد مراجعي العيادات النفسية».
ويذهب نقيب الصيادلة الدكتور محمود الحسن في المنحى نفسه، فيؤكد في حديثه إلى «الأخبار» أنّ هناك «زيادة ملحوظة في صرف الوصفات الطبية لمضادات الاكتئاب عما كانت عليه قبل بداية الأزمة». ويضيف: «هي زيادة طبيعية في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها السوريون»، مؤكداً أن الرقابة على صرف هذا النوع من الأدوية «ممكنة وتتم من خلال مراقبة سجل الصيدلية التي تسجل كميات الأدوية التي تسلمتها والمصروفة».
في مواجهة التوقعات بزيادة حالات الإصابة بالاكتئاب والاضطرابات النفسية خلال سنوات الأزمة، تحضر الجهود المجتمعية المحدودة للتخفيف من حدة هذه الحالات. ليندا محمود، متطوعة في إحدى المؤسسات الأهلية التي تقدم الدعم النفسي والمعنوي للمهجرين والنازحين، تشرح عن عملها لـ«الأخبار»: «نحن مجموعة من الشبان غير المختصين بالعمل النفسي ولم تمنحنا الحرب الدائرة الوقت كي نتدرب كما يجب على طرق الدعم النفسي. نقدم نشاطات نأمل من خلالها إدخال الفرحة والبهجة إلى قلوب المهجرين والنازحين، وخاصة الأطفال الذين حرمتهم الحرب من أبسط حقوقهم كالشعور بالأمان واللعب والدراسة والأهل». وتعترف ليندا بالحاجة إلى وجود «اختصاصيين نفسيين واجتماعيين، نظراً إلى قلة العدد الموجود».
ورغم ذلك، فإن الإحصاءات المتعلقة بمرضى الاكتئاب غير متوفرة إلى الآن، لكن عموماً فإن «الاضطرابات النفسية، والتي يشكل الاكتئاب الاضطراب الرئيسي فيها ترتفع من 10-15% قبل اﻷزمات بكل درجاتها، لتصل بعد اﻷزمات إلى ما بين 20-25%، ما يعني أن ربع السكان سيعانون من اضطراب نفسي ما مع الأزمات». ويشير الدكتور الركاب إلى وجود عوامل عديدة تؤثر على مراجعي العيادات النفسية، بعضها اجتماعي والآخر اقتصادي، إلا أنه «بالمجمل فإن النساء أكثر مراجعة للعيادات النفسية لأجل الاكتئاب من الرجال، وكذلك فإن ذروة الإصابة في الاكتئاب هي غالباً مرحلة الشباب، وتحديداً من العشرينيات حتى الأربعينيات».