ما كان ينقص أهل غزة، الذين يبيت الكثير منهم في الشوارع، إلا بيانات منسوبة إلى «داعش» تتبنى أكثر من عشرة تفجيرات استهدفت بيوت قادة في «فتح» فجر أمس، إضافة إلى منصة أعدت لاحتفال كان من المقرر أن تعقده الحركة بإذن من «حكومة حماس السابقة» في الحادي عشر من الشهر الجاري، وذلك لإحياء ذكرى رحيل ياسر عرفات وانطلاقة «المارد الفتحاوي» التاسعة والأربعين.
على ما يبدو، فإن «المارد» الذي سيخرج على الغزاويين هو «وجه جديد» للفلتان الأمني، لكن بطريقة مرضي عنها، فيما أُولى النتائج المباشرة لتلك الانفجارات إلغاء حكومة التوافق زيارتها لغزة (كانت مقررة من اليوم حتى الأربعاء المقبل)، وبلا شك، جملة اتهامات عريضة بين الحركتين، بالإضافة إلى الزج بتصريحات نفي وتبني لقيادات في التيار السلفي. كما لم يعلم بعد مصير عقد المهرجان الذي قاد عناصر «حماس» حملة إلكترونية ضده (العدد ٢٤٣٧ في ٦ تشرين الثاني).
عملياً، لا يمكن إنكار وجود «داعش» في غزة، ولكن ليس بالصورة التي قُدمت أمس (العدد ٢٤٢١ في ١٧ تشرين الأول)، على أنه تنظيم يستطيع تنفيذ سلسلة تفجيرات في مناطق عدة من القطاع خلال أقل من ساعة، ثم يترك بيانات «تحذير» من دون أن يرغب في حصد أي «إصابات بشرية». فمن البساطة فهم أن المنظومة الأمنية التي تعمل بها «حماس» في غزة، وجعلت وزراءها وقادتها يتحركون من دون مظاهر مرافقة وتأمين كبيرة، كانت كلها من ثمار جهاز الأمن الداخلي وعمله على جلب المعلومات الاستباقية، وهو جهاز يكاد لا يخلو أي حي أو عمارة سكنية من حضور عناصره.
الانفجارات وصلت
إلى بيوت الطرفين من مؤيدي عباس ودحلان

وكي نعرض معادلة موضوعية، فإن لدى كل الأطراف ما يدينها ويبرئها في آن؛ فـ«حماس» بالمعنى السياسي ليست بحاجة إلى هذه التفجيرات كي تنهي عقد المصالحة مع «فتح» لو أرادت ذلك، لكن أزمتها المالية و«عملية الإذلال» التي يمارسها محمود عباس بحق موظفي حكومتها العسكريين (أزمة الرواتب) تدفعانها إلى إيصال رسائل قوية المضمون دون أن تتحمل مسؤوليتها مباشرة، وهي خطوة ذكية بلا شك، لكنها تفتح بابا للتساؤل لأن هذه التفجيرات ليست سوى «هدية مجانية وثمينة» لعباس كي يواصل «سياساته تجاه غزة».
كما يجب أن يعلم من بنى حساباته على أن استهداف «فتحاويي غزة» سيؤلم «رام الله»، فهو قد يكون ارتكب خطأ كبيراً، لأنه كان واضحاً منذ رحيل «أبو عمار» أن غزة، بفتح وحماس وكل ما فيها، سقطت من حسابات السلطة، ودوما كانت «فتح غزة» كثيراً ما تشتكي أنها ليست صاحبة قرار، وأنها موضوعة على الهامش في كل الشؤون التنظيمية أو حتى الحكومية، وكل هذا كان قبل سيطرة «حماس» العسكرية على القطاع، بل قد يكون ذلك هو سبب تسليمها الحكم دون مقاومة تذكر أمام الهجوم على المقارّ الأمنية عام 2007.
أما «فتح»، فيدينها بروز خلافات «فتح ـ دحلان» و«فتح ـ عباس»، وهو ما بنت عليه القواعد الجماهيرية لـ«حماس» قاعدة البراءة مما جرى؛ والخلاف الأخير سببه «إشكال» بين مؤيدين لمحمد دحلان ومحمود عباس حدث قبل يومين في جامعة الأزهر في غزة، لكنه كان عراكاً لم يتجاوز التضارب بالأيدي. وإن كان يُفهم أن بعض من استهدفت بيوتهم تجنبوا اتهام «حماس» لاعتبارات تتعلق ببقائهم في غزة وعلاقتهم بقيادات الحركة.
في ما يخص «داعش غزة» (المجموعات السلفية)، لا يمكن التصديق بأنها تواجه الآن أزمة مع «فتح» التي لا تحكم غزة فعليا، أو أن مشكلتها الوحيدة في فلسطين تتمثل في «مظاهر السفور والتبرج» التي يحتمل أن تبرز في احتفال الرئيس الراحل؛ كما ليس من المفهوم أن يتضمن بيان التبني تحذيرات إلى «أتباع دولة الولي الفقيه» في القطاع، فيما سياق التفجيرات يتحدث عن قضية أخرى.
أكثر «مزحة سمجة» في إطار هذه القضية أن وزارة الداخلية في غزة أعلنت أنها ستفتح «تحقيقاً» في الحوادث المتزامنة، وهي كانت في تجارب سابقة الأسرع في الوصول إلى «سلفيي غزة» خلال أقل من 24 ساعة، بل في أحيانٍ كثيرة كانت سجونها تخلو من الفتحاويين، في حين تعج بالسلفيين والجنائيين!
حتى «فتح» التي اندفعت لتفرّغ كل غضبها، لم تستدرك أنها تعلن دوماً أنها «صاحبة المشروع الوطني الأكبر»، فسجل عليها، أمس، «سقطة وطنية» كبيرة حينما اتهمت «حماس» بهذه التفجيرات وقرنتها بـ«الإرهاب الإسرائيلي» في القدس! فبالإضافة إلى أنه اتهام سابق لأوانه، فإن على الحركة تبرئة ساحتها مما يمكن اعتباره مؤشراً على «تصفيات داخلية» قبل إلقاء الحجارة على زجاج الآخرين.
هناك من أراد أن يقف على الحياد ليتهم «عملاء الاحتلال» بالوقوف وراء هذه العمليات من «أجل إشغال الحركتين عما يحدث في القدس»، كأنه كان بيدِ أيٍّ منهما أن يخيف إسرائيل حتى تشغل بالها في المخاطرة بعشرات العملاء لتنفيذ هذه التفجيرات، ولكنه لا يمكن الاختلاف على أن تبعات أي خلاف بين الفصائل الفلسطينية يصب في مصلحة العدو حتماً.
وإذا كان هناك من يريد أن يتهم القيادي المفصول محمد دحلان بالتخطيط في الإمارات والإيعاز إلى «بقايا عناصره» في غزة لتنفيذ الهجمات، فإن الأولى به مراجعة مستوى الضبط الأمني في القطاع، وتذكر أن الانفجارات وصلت إلى بيوت الطرفين من مؤيدي عباس ودحلان. وبدلاً من انتظار لجان تحقيق لا تخرج بنتائج كالعادة، على عباس أن ينهي حفلة الإذلال لموظفي «حماس» حتى ولو بدفعات مالية أولية، فيما على من نفذ هذا العمل، أياً كان، أن يتذكر أن هناك أولويات أخرى، إن كان يفقه «فقه الأولويات»، لأن فلسطين لا ينقصها اسم «داعش» وعمل «عصابات الليل»، فيما تنهض حالة انتفاضة «لا فصائلية» يقودها أبناء القدس.