"نداء تونس" كقوة موازية لـ"النهضة": إرادة محلية وإقليمية ودولية

لم يولد هذا الاستقطاب الثنائي بين "نداء تونس" و"النهضة" فجأة، بل خطط له منذ مدة: ففي أوج الأزمة الانتقالية، عمد البعض إلى تشكيل قوة سياسية توازن "النهضة"، وتقدر على منازلتها بعدما استشعروا بأن الأحزاب الديموقراطية والعلمانية عاجزة عن مجاراة "النهضة" ومنافستها.
وهكذا كان حزب "نداء تونس"، الذي أسسه الباجي قائد السبسي، وهو وجه من رموز العهد البورقيبي وعهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. وحشد السبسي في الحزب أعضاء سابقين من حزب "التجمع" المنحل ويساريين ونقابيين، ممن توحدوا على معاداة الإسلام السياسي عموماً، و"النهضة" خصوصاً، ليمنح بذلك لهذا الكائن الهجين مشروعية وجوده وضمانات استمراره.
لقي هذا المسعى رعاية إقليمية ودولية، ودفعت هذه الأطراف الراعية زعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، إلى مقابلة السبسي وبناء أرضية تفاهم مشترك.
وقد تم اللقاء فعلاً بين الرجلين في آب 2013، إذ صرح الغنوشي بأن الديموقراطيات المستقرة تقوم على التفاهم بين الحزبين الكبيرين في البلاد، و"النهضة" و"نداء تونس" هما الحزبان الكبيران في تونس.
من جهته، ظل السبسي متحفظاً وحريصاً على التمايز عن "النهضة"، حتى إنه صرح قبيل الانتخابات بأن "النهضة ونداء تونس خطان متوازيان لا يلتقيان، وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله".

فشل تجربة الحكم الانتقالي

نجح "التجمعيون" وقوى الدولة العميقة في تشويه الانتفاضة، وأقنعوا الكثيرين بأنها لم تجلب لهذا الشعب إلا المزيد من الأزمات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، فقد تفاقمت البطالة وتضخمت العملة وارتفعت الأسعار وفقد الأمن وانتشر الإرهاب، وذبل وجه الوطن، واكفهرت قسمات العباد، وتبدلت البلاد.
وتألقت منظومة الإعلام الدائرة في فلك "التجمعيين" في تأجيج نقمة الناس على الطبقة السياسية الحاكمة، وبالخصوص رموز "الترويكا" وسفهت تجربة الحكم الانتقالي.
وأعطت "النهضة" بأخطائها خاصة في ملف التكفيريين والإرهاب السلفي الانطباع بأنها تفرط بأمن البلاد وبحرية الناس وكرامتهم، من أجل أهداف حزبية ضيقة.
في هذه الأجواء المتبلدة، كان اللهاث من أجل الخلاص، وأمام فنون الإغراء السياسي التي يتقنها "نداء تونس"، وهو الذي قدم نفسه كبديل لهذه الطبقة الفاشلة وأنه وحده القادر على إدارة الدولة وحل مشاكل الناس وضمان أمنهم، وكيف لا وهو حزب من أداروا دفة البلاد طوال عقود من الزمن دون أن يرف لهم طرف.

عزوف الشباب عن الانتخابات

تفيد الأرقام الرسمية بأن نسبة المشاركة في الانتخابات بلغت 61,8% من المسجلين على قوائم الناخبين. وقد تغنّى البعض بهذه النسبة "العالية" أو "المحترمة"، متغافلين عن حقيقة لا بد من الاعتراف بها، وهي أن أغلبية الشعب لم تصوت وأن الشباب هم الغائب الأبرز عن هذا الاستحقاق.
وبحساب بسيط، لا يتجاوز عدد المقترعين نسبة 40% من مجموع من يحق لهم الانتخاب، وحوالى 60% يمثلون الأغلبية الصامتة أو المقاطعة، وقطعاً أغلب هؤلاء هم من الشباب.

تكتيك انتخابي: التعدد في الشكل والوحدة في التصويت

يرجح المتابعون حصول تواطؤ بين الأحزاب المنبثقة عن "التجمع" المنحل (نداء تونس وحزب المبادرة والكتلة الدستورية)، على الدخول إلى الانتخابات متفرقين شكلاً، ومتحدين فعلاً، إذ صوّت جلهم لصالح "نداء تونس"، حتى لا تتشتت أصوات "التجمعيين" وتتفرق على هذه الأحزاب، وتستفيد بذلك أحزاب أخرى، وبالخصوص "النهضة".
وهذا الأمر وإن لم يكن بعيداً عن عقلية "التجمعيين"، فإن إثباته يحتاج إلى قرائن وأدلة ملموسة أكثر.
هذه أهم أسباب صعود "نداء تونس"، فعلى هذه الأرضية اندفعت بعض الجموع وراء حمى الإعلام وهاجس الخوف من الإرهاب والتيارات التكفيرية والرغبة في التخلص من هذه الطبقة السياسية الفاشلة نحو التصويت لصالح "نداء تونس".
ولكن مع بدء ظهور النتائج الأولية، تعالت الأسئلة بشأن هاجس الخوف من عودة التسلط والديكتاتورية، وكأن قدر هذا الشعب أن يعيش هاجس الخوف مرة من الإرهاب ومرة من الديكتاتورية.
يعرف عن التونسيين في تجاربهم الانتخابية السابقة أنهم يمارسون الانتخاب الاحتجاجي، بمعنى أن الجماهير، أحيانا، تصوّت لطرف ما، لا إيماناً ببرنامجه ولا اقتناعاً بخطه الفكري، وإنما انتقاماً من طرف آخر واحتجاجاً عليه، وعادة يكون هذا الطرف الثاني هو الحزب الحاكم (هذا ما حصل في انتخابات 1981 والتي زوّر نتائجها النظام لفوز حزبه بأغلبية الأصوات).
ويبدو أن الانتخابات الأخيرة تعكس هذا التوجه، فنسبة من الناخبين منحت ثقتها للنداء احتجاجاً على الأحزاب الحاكمة وعلى القوى التي فشلت في تحقيق مطالب الناس.

القلق المشروع

تثير مواقف "نداء تونس" وتصريحات قادتها المزيد من المخاوف من شبح الاستبداد والتسلط وفقدان أهم منجزات الانتفاضة: الحريات التي لم ينعم بها الشعب أبداً كما نعم بها بعد الانتفاضة.
فبعد الفوز، صرح السبسي بأن "نداء تونس" امتداد لبن علي، ولكنه مع حرية التعبير، ويبدو أنها المرة الأولى التي يجرؤ فيها على قول ذلك، فقد كان دائماً حريصاً على إبراز الانتماء للحقبة البورقيبية والنأي بالنفس عن عهد بن علي، فما الذي تغير؟
من جهة ثانية، يتأكد مع رفض "نداء تونس" للأصوات التي تطالب بالتوافق على رئيس للبلاد، أنه يسعى حثيثاً للاستحواذ على منصب الرئاسة أيضاً، مستفيداً من زخم الانتصار في التشريعية، ولكي يحقق السبسي حلماً وطموحاً شخصياً بأن يتوج مسيرته السياسية بتولي رئاسة الجمهورية في سن التسعين تقريباً.
وأما المؤشر الثالث الذي نورده في هذا السياق فهو الغموض الذي يكتنف موقف "نداء تونس" من طبيعة التحالفات السياسية الممكنة، فالنتائج تحول أن ينفرد حزب بتشكيل الحكومة، وبالتالي فـ"نداء تونس" مضطر إلى عقد تحالفات ليضمن تشكيلها، والظاهر أنه غير متحمس لحكومة جامعة تضم معظم الأحزاب، وخاصة حركة "النهضة"، الخصم اللدود.
كل هذه المؤشرات توحي بسعي حثيث للهيمنة على مؤسسات الدولة والسيطرة على كل المواقع، وما قد يثير ذلك من مخاوف بشأن عودة ممارسات العهد السابق.

هل استجاب القدر للشعب التونسي؟

من المفارقات العجيبة التي ستدونها الذاكرة التاريخية للانتفاضة التونسية أن المرحلة الانتقالية أدت الى مفترق طريق يتحكم فيه إلى حد بعيد أركان المرحلة التي قامت الانتفاضة بوجهها:
فمستقبل البلاد بيد "نداء تونس"، فإما أن يقوم بعملية نقد ذاتي عميقة ليتخلص من وصمة الانتماء إلى الديكتاتورية، ويندمج بذلك في محيط واسع من المقبولية، وتنتقل البلاد فعلاًً الى مرحلة جديدة من الاستقرار يمكن أن يتغلب على المشاكل الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
وأما إذا أصر "نداء تونس" على التعنت والتباهي بنتيجة الانتخابات وتمادى في توجهات الاستحواذ، فلن تطول مدة حكمه ولن ينجح في تشكيل حكومة مستقرة، وخاصة إذا لاحظنا تركيبته الداخلية الهجينة التي تفتقر إلى الانسجام والتآلف.
حينذاك سيكون المشهد مختلفاً تماماً. وفي كل الأحوال، فإن "الشباب الثوري" سيشكل عامل توازن مهماً يحول دون انفراط الوضع، والنكوص نحو الديكتاتورية.
"الشباب الثوري" لن يبقى تحت هول الصدمة من نتائج الانتخابات، بل لعله يستوعبها ويؤسس لأفق جديد، تتحقق فيه فعلا نبوءة الشابي شاعر الخضراء:
إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر