أكسفورد ـ سليم لبدالموتُ الذي يأتي نحونا ليس له صوتٌ وليس له رائحة. انتفض الجميع حين قذفتهم القذيفة إلى الأعلى، قذفتهم إلى السماء. وهما يحلقان، كان كنان يقول لساجي «ألم أخبرك أن كل هذا القفز لن يذهب سدىً؟ ها نحن نطير الآن! لم يكن يفصلُنا عن الطيران سوى إغماضة العين الأخيرة تلك. قضينا وقتاً طويلاً ونحن نحاول، لكن لا بأس فها نحنُ قد نجحنا».

**

عقدتُ ربطة العنق. أبدو أنيقاً، قلتُ لنفسي. هذا المساء خاص جداً ولن يتكرر في هذه الحياة على الأقل. توجهت إلى «ساينت إدموند هول»، الكلية التي قضيت فيها سنين حتى أحببتُها وأحبّتني.

وصلتُ متأخراً، لكنني استطعتُ أن أبتسم في الصورة التي جمعت الطلاب الذين أنهوا دراستهم للماجستير. ابتسمتُ ثانيةً حين كانت روز تمليني كلاماً أكتبه على بطاقة المعايدة التي سنقدمها لأساتذتنا الذين تراوحت علاقتُنا بهم بين الحب والبغض والخوف.
وقفنا جميعاً أمام طاولة العشاء، ننتظر رئيس الكلية ليضرب على الطاولة ويأذن لنا بالجلوس. في ذلك الوقت، كان الإسرائيليون يهدمون بيوتاً في الخليل... لا بأس، الخلايلة روحهم طويلة و«معهم مصاري». سيبنون بيوتاً أخرى، ربما يكونون محظوظين وتكون البيوتُ الجديدةُ أجملَ من تلك التي هدمت. ما زال بإمكاني أن أتناول عشائي.
ضربَ رئيسُ الكلية على الطاولة وجلسنا. تناولتُ الخبز، قطعته، ودهنته بالزبدة، كانت تقول لي كاميليا إنني سأصير رجلاً إنكليزياً سميناً حين كانت تراني أفعل هذا في عشاءات السنة الأولى، لا أعرف لماذا أحببت هذه العادة. كنتُ أرى فيها ترفاً غير مكلف يضفي أناقةً على العشاء.
قصف الإسرائيليون سقف البيت بصاروخٍ لا يجرح، كالسكين الذي أدهن به الزبدة. نحيتُ السكين وقد استقر الخبز في معدتي، قصف الإسرائيليون البيت، عاد سقف المنزل إلى الأرض. لم يكن بيتنا، كنتُ أعلم. لو كان بيتَنا لصرخ أخي الصغير ولسمعت صوته، ولتبعثرت رسائلُه التي كان يضعها في ملابسي قبل أن أسافر، لو كان بيتَنا لانطفأت النار التي توقدُها أمي لتجمعنا حولها. لكن ماذا إن كان أخي يصرخُ الآن في حياةٍ أخرى! كيف لي أن أسمعه؟ ماذا إن كان قد أخذ رسائله معه وتركني هنا.. وحدي؟ ماذا لو صارت النارُ باردةً وقد ابتعدَ نصفُنا عن البيتِ الذي أخشى ضياعه؟ لم يكن بيتنا، تأكدتُ من ذلك. بإمكاني أن أعود لعشائي الرائق. هل استطاع أهل المنزل أن يخرجوا منه بسلام؟ هل استطاعوا أن يلملموا أشياءَ غير دمائهم مما تتسعُ لها خمسون ثانيةً قبل أن يقذفهم بالموتِ رجلٌ لم يستطع أن يواجه خصومه الأنداد.. لمَ؟ لا أعرف، عليّ ألا أشغل بالي كثيراً.. عليّ أن أعودَ لموسمي الأخير في هذه الجامعة التي تحبني.

**

أحبُّ السمك، هذا الطباخ يعرف الطعم الذي يبحث عنه لساني، سلطة السلمون المدخن أكلتها على مهل ليتسنى لي أن أشارك بالحديث، وأتظاهر بالاهتمام. على عجلة فيريس*، كانوا يراقبون الحياة من أعلى، عضّوا أصابعهم وصعدوا، قالوا لبعضهم "بإمكاننا أن نرى البحر من هنا. ربما إن ارتفعنا أكثر يمكننا أن نرى فلسطين"، اغتاظ مجندٌ كان يراقبهم من وسط البحر، اغتاظ أنهم لم يخشوه حين قرروا أن يصعدوا إلى فلسطين. بدقةٍ متناهية وبتكنولوجيا صنعها شخصٌ ربما كان يجلسُ في عشاءِ أكاديميٍ كالذي أجلس فيه الآن، صوّب قذائفه نحوهم، فصعدوا، صعدوا إلى فلسطينَ أخرى غير تلكَ التي تغصّ بالغرباء.

**

عمّ صمتٌ قصير اعتدتُ خلاله على المشهدين، المشهدُ الذي يحتفلُ فيه الناسُ بإتمام تعليمهم ويُعدّون أنفسهم بكل أناقةٍ لحياةٍ تبدو أمامهم، والمشهد الذي لا يبدو أمام أصحابه إلا كنقطة عاديةٍ يرونها مرةً واحدة، لا يعبأون بها. أما نحنُ، المتفرجين، فنصابُ بالاعتياد، ولعل أكثر ما يغيظنا ونحن نراقبهم من بعيد ونحصي أعدادهم ونعدد مناقبهم هو أننا لانعرف ماذا يرون بعد هذا الموت. ربما الطريق إلى الموت لا يمر عبر السماء! ربما لم يصعد كنان وساجي وأمهما وأطفال (عائلة) العجلة إلى أعلى، ربما سافروا باتجاهٍ آخر! كيف أستطيع أن أعرف؟! يمكنني أن أجرب! لكن ماذا إن لم يعجبني الموت؟ لن أستطيع العودة! ربما أستطيع! ربما يستطيع الموتى أن يعودوا إلى هذه الحياة، لكنهم لا يرغبون في ذلك! ربما! كيف لي أن أعرف، وأنا أخشى على نفسي من كل هذا الموت؟

**

«سمعت أنك حصلت على تمويل لمشروعك من (إحدى الشركات) عن طريق مشرف الماجستير»، سألت إيمي. أجبتها بنعم. «هذه فرصة جيدة أراك ترغب في مواصلة دراستك، قال بازيل، وأردف: فلسطين تحتاج إلى أصحاب المؤهلات العالية حتى لا يتمادى الإسرائيليون “القوادون” في غيّهم. ابتسمتُ في وجهه لوصفه الإسرائيليين بهذا الوصف، والذي لا يتلاءم، على ما يبدو، مع أناقة هذا الموسم. لكنني ضحكت في نفسي لسببٍ آخر تماماً؛ هل سأعود إلى فلسطين لأنني درست الهندسة؟ هل سأعود إلى فلسطين لأنني أدّعي أنني أجيد الرياضيات؟ هل ستعيدني هذه الأشياء إلى فلسطين؟!
سأعود إلى فلسطين، سنعودُ إلى فلسطين بهمة هؤلاء المحاصرين، المنكفين على حيواتهم البسيطة، الذين لم يخرجوا من غزة المليئة بالحزن والقهر والموت. سيعيدنا إلى فلسطين هؤلاء الذين لم تُفتح لهم آفاق المعارف. هؤلاء الذين كانوا يتعلمون كيف يصنعون الحياة في الوقت الذي كان فيه الكثيرون، ومنهم أنا، يستمتعون بامتيازاتهم الأكاديمية ويظنون، جهلاً وغروراً، أنهم يسيرون على درب المعرفة والتنوير، ينشغلون بمشاريع تبدو لهم عظيمة ويحصلون على جوائز تعزز في داخلهم هذا الشعور بأنهم كائناتٌ ذات فائدة. ترتفعُ في نفوسهم فكرةٌ مزيفةُ بأنهم متنورون وهم في الحقيقة لا يستطيعون إنارة بيتٍ صغيرٍ سُلب منه قلبُه، قبل أن ينظروا إليه من بعيد ويطلقوا بعض التحليلات الفارغة، ويطلبوا من الآخرين فعل كذا وكذا، ثم يفشلوا، فيلقون باللوم على أشياء كثيرة هي في محصلتها لا تمسّ قدر المعرفة التي يظنونها في نفوسهم. سنعودُ إلى فلسطين بمعية هؤلاء، نحن الذين لم نصنع لفلسطين شيئاً، خبأنا دماءنا في أجسادنا وابتعدنا، ولم نصنع لها فانوساً تعلقُه في عتمة هذه الليالي، ولا حتى طائرةً من دون طيارٍ تواسي سماءها.

**

ودع نصرُ أمه وأباه وزوجته وابنتيه، ورافقه أخوه إلى صلاته الأخيرة، كان ذلك هو الصباح الأولُ الذي يراهم فيه منذ أن ترجلَ إلى مكانِه عند بدء الحرب، خرجا من الجامع معاً وافترقا بعد أمتارٍ قليلة، أصابتهُ طائرةٌ من دون طيارٍ بقذيفةٍ لم تقتله، وثبَ بما تبقى من جسده وصرخ داعياً أخاه لأن يبتعد، ركض حراً خارجاً من دمائه التي استقرت على التراب، أصابته قذيفةٌ أخرى. نادى على أخيه: "لقد مُتّ! فابتعد". هل هذا كل ما كان في خاطره؟ هل كان هذا كلّ ما يشغلُ باله في اللحظة التي يخطو فيها إلى حياةٍ أخرى؟ لا أحد يعرفُ، لا أحد يعرفُ إلا أولئك الذين يسمعونه الآن بآذانٍ مصغيةٍ مطمئنة.

**

وقفنا متجاورين لتؤخذ لنا صورةٌ تعكس كل هذا الحب الذي ندعيه، مدّ كلٌ منا ذراعيه قدر ما استطاع ليلفّ أكتاف الذين يجاورونه. أُخذتِ الصورة، ثم انطلق الجميع يُعدون أنفسهم لتبادل الابتسامات الصادقة ولسهرة ما بعد العشاء. لم أستطع أن أكون صادقاً في ابتساماتي، رَكَضَت نحوي فتاةٌ فكت ربطة عنقي وانطلقت بعيداً، تركتها وعُدتُ إلى البيت. لم يكن المطر في تلك الليلة يشبه مطرَ هذه البلاد المعتاد في مثل هذا الوقت من السنة. كانت حبات المطر كبيرةً وسريعةً كالرصاص، رصاصٌ لايجرح، لكنه يملأ القلب بالخوف. ركضتُ هارباً من هذا المطر المفاجئ حتى جفّ قلبي وتعبت رئتاي، وصلتُ إلى البيت وقد أغرقني الماءُ البارد.

**

ما الذي سأفعلُه هذا المساء؟ سأُبقي نفسي في الماء البارد حتى أجف، وسأفكرُ بالذين يُقتلون. سأنزعُ جلدي عن هذا اللحم الأزرق، وأبحثُ عن موتٍ يحيي هذه الكلمات. سأفكر ملياً أنني ما زلتُ حياً وأن خيالاتي عن فلسطين ما زالت حية. سأُفكر ملياً أن أولئك البعيدين يموتون الآن، وأنا الأقربُ إلى نفسي أنتفض وأهدأ كعصفورٍ أحاط به القفص، لا ييأس ولا ينتصر. سأفكرُ في البعيدين، وهذا الماءُ البارد الذي يلف جسدي سيذكرني بأن قلبي ما زال يرتجف. سأفكرُ في أن زمناً سيأتي لا يشغلُ فيه بالك ماذا تقولُ لنفسك وأنتَ تسمع عن شخصٍ شاركك شطراً من طفولتك أنه تركك إلى سبيلٍ آخر بعد لقائكما الأخير. سيأتي زمنٌ لا يعتري لسانك الشلل وأنت تُعزّي عزيزاً بابنه المقاتل. سيأتي زمنٌ لا تفرك فيه أصابعك وانتَ تحدثُه، ولا تجترّ كل ما تعلمته عن فضائل الشهداء حتى يكون العزاء لائقاً. سيأتي زمنٌ تشعرُ فيه بأنكَ لست بحاجةٍ لأن تقول شيئاً، زمنٌ لا يكونُ فيه الصمتُ مشيناً، ولا يكون فيه الفرح خيانة.

*غايوس فيريس حاكم روماني فاسد.