سلمية | يغرق أهالي مدينة سلمية في هواجس لا تنتهي. «داعش على الأبواب»، يردّدون. المدينة الواقعة على أخطر الطرق، بالنسبة إلى الجيش والمسلحين على السواء، هي ضمن ريف حماه الشرقي، في منتصف الطريق الواصل بين ريف حماه الغربي وإدلب. غير أن الأهم أنها تتوسط الطريق بين مطار حماه العسكري وخناصر، في ريف حلب، وصولاً إلى حلب المدينة. تمثل جبهات السعن وصبورة وعقارب، شمال شرق البلدة، خط الدفاع المشتعل في مواجهة قرى صغيرة يسكنها البدو، ويسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية».
ورغم وصول قوات العقيد السوري سهيل الحسن، من حلب إلى الريف الغربي للسيطرة على رحبة خطاب ومحيط بلدة محردة، لم تنتهِ هواجس السكان من تقاعس النظام عن نصرة بلدتهم، فيما لو اجتاحها مسلحو «الدولة». سيطرة الجيش على الريف الغربي وبلدة مورك أقصى شمال حماه، أعادت إلى أهالي سلمية بعض الأمل. تمثل سلمية، بحسب وصف أحد وجهائها، ثنائية الفكر والكفر وسط نسيج سكاني إسلامي مُحافظ «ذي لون واحد». يرفض أبناؤها لفظ الكفر، في وصف البلدة التي تعدّ «أمّ القاهرة والدعوة الفاطمية»، إذ يستبدلون الكفر بالفقر، كلفظة أصحّ، ليقترن الفكر بالفقر، لدى أبنائها المتمردين، والمتقمصين لأفكار ابن بلدتهم الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط.
لطالما مثّلت سلمية، مع بداية «الثورة السورية»، نموذجاً متفرداً بتظاهراتها. فاخر المتظاهرون منذ بدء الأحداث بقرع الكؤوس وشرب نخب الثورة المدنية الآتية، بعدما وصل عدد متظاهريهم إلى 4000 شخص. غير أن كل شيء انتهى مع إطلاق الرصاصة الأولى، التي حوّلت الحراك إلى مجرد صراع متمرد بين الإسلاميين والسلطة، يحاول معارضو البلدة تحييد أنفسهم عنه.
يفاخر بعض الأهالي، أيضاً، بأن متظاهري سلمية وحدهم لم يخرجوا من الجوامع. غير أن الاعتراف واضح، على لسان معظم أبناء البلدة، بأن سلمية عجزت عن التأثير إيجاباً في محيطها، لأسباب تتعلق باختلافها الفكري والطائفي. يقول بهاء، وهو معارض من سلمية: «ثالث مدينة خرجت ثائرة بعد درعا وبانياس هي سلمية. رفع المتظاهرون شعارات إصلاح في البداية، حملت معاني التعاطف مع مدينة درعا وأُخرى تتعلق بالكرامة السورية».

«داعش» على الأبواب

يرابط شبح الحرب أقصى شرق البلدة، إذ تفصل سلمية عن جبل شاعر، شمال حمص، قرى برّي وعقيربات والسوحة. وتعدّ الأخيرتان أهم مراكز عناصر التنظيم شرق البلدة،
«أمرنا الإمام بأن نحيّد أنفسنا عن الصراع بين النظام والإسلاميين»


ضمن ريف حماه الشرقي. ويحيط خط التماس بالبلدة من شرقها وصولاً إلى شمالها، مروراً بقريتي المبعوجة والسعن، التي تعد آخر قرى سلمية قبل البادية السورية. خاض أهالي السعن اشتباكات مباشرة ضد مسلحي «داعش» المتمركزين في عقيربات المجاورة، وخرجوا من بلدتهم في تغريبة حزينة لم تذكرها وسائل الإعلام. يذكر مروان، ابن القرية المقاتل في صفوف «الدفاع الوطني»، أن شباب القرية ارتضوا أن يتحولوا إلى مقاتلين لاسترجاع قريتهم، واستطاعوا استرجاعها وتحويلها إلى نقطة تماس مع مناطق نفوذ «داعش». ويلفت المقاتل إلى أن اشتباكات مشابهة تشهدها قرية بري، في ريف سلمية الشرقي، مع مسلحين محليين، إذ تطلّ على مزارع لقرى متفرقة، يسيطر عليها المسلحون، أبرزها: عْدِمِة وأم ميل. وفي شمال شرق سلمية أيضاً تظهر قرية أبو حبيلات التي سقطت منذ أكثر من سنة، ليسيطر عليها تنظيم «الدولة»، مستغلاً قلة عدد سكانها. يسيطر مسلحون محليون على قرية تقسيس، جنوب غرب سلمية، متمترسين ضمن بيئة القرية الوعرة والمتصلة مع حوض العاصي. سلمية القريبة من خطر مسلحي ريف حمص الشمالي، تفصلها كيلومترات قليلة عن طريق زعفرانة وعز الدين، وصولاً إلى تلبيسة والرستن، حيث يظهر مجدداً خطر «داعش» جنوباً. ما يحاصر أحلام أهلها بالحرب المقبلة من كل اتجاه، مهدّدة خصوصية المدينة التي تتوسط البلاد.

بانتظار «الإمام»

أدى الفقر والإهمال الحكومي إلى تعويل السكان على «الإمام» آغا خان، حتى يمكن أن تسمع عبارات مثل: «أمرنا الإمام بأن نحيّد أنفسنا عن الصراع بين النظام والإسلاميين»، «لن يتركنا الإمام وهو يعمل على حل مشاكلنا». يرى هاني، وهو معارض آخر، أن للآغا خان، زعيم إحدى فرق الطائفة الإسماعيلية، هيبته على المؤمنين، لكن جهات مدنية وعلمانية غير مهتمة بـ«أوامر الإمام» هي التي قادت الحراك في البلدة. يشرح الشاب المعارض سبب هواجس السكان المنكفئين طائفياً، بمخاوف أتت بعد سقوط قرى عدة في ريف البلدة، إضافة إلى خطر داعش الذي يشغل بال الجميع. «لم يكن أهالي سلمية طائفيين يوماً. مريدو الآغا خان، مثلاً، لم يكونوا ناطقين باسمه كما هم اليوم، إذ إنهم يلتقطون كل إشارة خطر صغيرة بالكثير من الخوف، منتظرين مخلّصاً ما»، يقول.

دور الجمعيات

تتعايش البلدة كسائر البلدات السورية مع سقوط بعض أبنائها شهداء في الجيش و«الدفاع الوطني»، الذين يقدّرون بالعشرات، خلال معارك شرق البلدة، بين عدد سكان يقدر بـ150 ألف نسمة. انقطاع المياه عن بيوت البلدة مثّل أقسى مشاكل سلمية خلال الصيف الماضي، إثر قطع خط المياه المار في حي الوعر الحمصي، الخارج عن سيطرة الدولة. وبالتعاون مع مؤسسة الآغا خان، حُلّت مشكلة المياه مؤقتاً، بتأمين بدائل آنية، سمحت بعودة المياه إلى سلمية، وجزء من مدينة حماه. الفقر والفوضى في البلدة يلفتان نظر زوّار البلدة، ولاسيما في ظل كثرة الحديث عن مشاريع تنموية لمؤسسة الآغا خان. يحتلّ الشأن الإغاثي أول اهتمامات المؤسسة، بالاشتراك مع جمعية البر والمجلس الشيعي الإسماعيلي الأعلى. ويرى رئيس جمعية العاديات، غالب المير غالب، أن دور الآغا خان قديم داخل الطائفة، باعتباره الزعيم الروحي، وتمثّل خلال الأحداث بالتأكيد على مريديه عدم حمل السلاح ضد الدولة السورية. ويضيف أن الجمعيات تتعاون في ما بينها لمساعدة النازحين والفقراء في البلدة. ويذكر المير غالب أن العمل جارٍ اليوم على توزيع بدل مادي على 20 ألف شخص في سلمية، مقدّر بـ16 ألف ليرة (ما يعادل 100 دولار). وتعمل المؤسسات الإغاثية على دعم نازحي تلبيسة والرستن، إذ تشهد البلدة احتضاناً لهؤلاء، منذ بداية الحرب، دون استعراض في مساعدتهم.




مضى الحراك السلمي وبقيت خيالات وذكريات عن متظاهرين أوائل، أفضى الحال ببعضهم إلى نهايات غريبة، أبرزها مقتل أحد المتظاهرين من قرية عقارب في ريف سلمية على أيدي «ثوار حرستا»، وترك جثته وقد كُتب عليها: «عوايني كلب»، كناية عن عمالته للنظام، حسب اتهامهم. وبالطبع تم تسجيل اسم الرجل المندفع والمؤثر في نفوس متظاهري سلمية، ضمن قوائم الضحايا الصادرة عن مركز التوثيق لانتهاكات النظام، وذلك لعام 2012، دون الدخول في ملابسات مقتله.