تونس | قبل أن يسلّم الحكم إلى خلفه، الأمين العام السابق لـ«حركة النهضة»، حمادي الجبالي، قال الباجي قائد السبسي (عام 2012) إنّه لن يستقيل من السياسة ما دام حيّاً وفي صحة جيدة. يومها لم ينتبه أحد لكلام الرجل العجوز، الذي ناهز آنذاك الخامسة والثامنين من العمر. وبعد أيام نظّم حفلاً استثنائياً سلّم خلاله السلطة، في قصر الحكومة في القصبة، وكان مشهداً غير مسبوق عربياً.

كان المشهد مهيباً، ولم يكن أحد، ربّما، باستثناء الباجي قائد السبسي قادراً على فعله. وهو الذي ناضل في «الحزب الدستوري» من أجل الديموقراطية، إلى حدّ استقالته عام ١٩٧١ احتجاجاً على غياب الديموقراطية في الحزب الحاكم آنذاك، مضحياً بمنصبه سفيراً في باريس.
جمع السبسي حوله مجموعة من الشخصيات اليسارية والنقابية، ومن أنصار الشهيد صالح بن يوسف (الذي اغتاله النظام السابق مطلع الستينيات كما هو موثّق). واختار السبسي أن يكون مؤسسو الحزب جميعاً من خارج منظومة «التجمع الدستوري الديموقراطي» المنحل، ومن المحيطين بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. كانوا جميعاً إمّا بعيدين عن السياسة، أو من الناشطين في «الحركة الديموقراطية». ويكفي أن نذكر، على سبيل المثال، الأمين العام لحركة «نداء تونس» في ما بعد، الطيب البكوش، الذي كان أميناً عاماً للاتحاد العام التونسي للشغل، وعرف تجربة السجن لمدة عامين (زمن بورقيبة)، وكذلك القيادي في «الحزب الشيوعي»، بوجمعة الرميلي، أحد «خريجي سجون بورقيبة»، وعميد المحامين، محمد الأزهر الشابي، أحد أنصار صالح بن يوسف، وسيّدة الأعمال، سلمى اللومي، وقيادات الحركة الطلابية في الثمانينيات مثل: محسن مرزوق، والأزهر العكرمي، وسليل عائلة شهيد الاستقلال، الهادي شاكر، الجامعي سليم شاكر، وغيرهم.
تلك التركيبة التي اختارها الباجي شكلت في حقيقتها رسالة طمأنة للشارع التونسي، إذ جمع في تأسيس الحزب بين الرافد «الدستوري» و«اليوسفي» والنقابي واليساري، وجمع بين الأجيال والجهات، الأمر الذي أدّى، على ما يبدو، إلى أن يكون «نداء تونس» القوّة الأولى في البلاد، خلال عامين فقط، وأن يشكل قوة ضغط. وهو الأمر الذي يفسّر التحاق أغلب الطبقة الوسطى به، ووسط اليسار، وفئات شعبية في المدن والقرى الداخلية والأحياء الشعبية حول المدن الكبرى.
«نداء تونس» حزب يشبه التونسيين في طروحاته النظرية، فهو حزب غير أيديولوجي، نجح في التوفيق بين أسس «الحركة الإصلاحية» التونسية، التي ولدت في القرن الثامن عشر، وتبنّى طروحاتها ورموزها، مثل «حركة الشباب التونسي»، وجمعية «الخلدونية»، و«الصادقية»، وآباء «الحركة التنويرية» أمثال: خيرالدين باشا، والثعالبي، وسالم بوحاجب، وابن عاشور، والطاهر الحداد، والشابي، وإرث «الحزب الحر الدستوري» القديم، ثمّ «الحزب الدستوري» الجديد وزعمائه مثل: الحبيب بورقيبة، محمود الماطري، صالح بن يوسف، والهادي شاكر، وكذلك إرث الحركة النقابية، وشهيدها فرحات حشاد، وإرث الحركة الديموقراطية منذ ١٩٦٢، عبر تبنّي نضالات اليسار والحركة القومية والإسلامية، في المطالبة بحرية التعبير والتعددية الفكرية والسياسية والحزبية، وصولاً إلى تبنّي نضالات المحتجين منذ ٢٠٠٨ في الحوض المنجمي في محافظة قفصة، واحتجاجات ١٧ كانون الأول ٢٠١٠ بعد وفاة محمد البوعزيزي محترقاً، وصولاً إلى ما يعرف بـ«ثورة ١٤ كانون ثاني ٢٠١١».
وفي وقت قياسي نجح «نداء تونس» بأن يكون حاملاً لأمل فئة واسعة من التونسيين، فهل يحافظ على هذا الزخم الشعبي الذي يتمتع به؟ أم يغرق في خلافاته بسبب تعدد روافده الفكرية والسياسية بين اليسار والنقابيين و«الدساترة»؟