لم تؤدّ المواجهات بين القوى الأمنية والإرهابيين عشية الاستحقاق الانتخابي إلا إلى تصعيد الأسئلة بشأن مسؤولية «حزب النهضة» الحاكم عن تمدد المجموعات التكفيرية، رعايةً أو غضَّ طرف.
لقد أفرزت انتفاضة 14 يناير 2011 وما تلاها من مسار انتقالي عسير ومتعرج مشهداً سياسياً مغايراً لما اعتاده التونسيون، ومن مفردات هذا المشهد المستحدث الصيغة الجديدة للعلاقات البينية بين «النهضة» والمجموعات السلفية، بمختلف تلاوينها: المذهبية غير المنظمة، والحزبية المقننة، وأخطرها السلفية القتالية.

فقد اتخذت علاقة «النهضة» مع التيارات السلفية منحى جديداً يتخطى الإطار الإيديولوجي والنفسي، ويتجاوز السياق البراغماتي، وما يدعو إليه الأخير من توظيف وتحالف ضد الخصوم، إلى منطق جديد فرضته إيقاعات الأحداث المتسارعة وتحدياتها، ومقتضيات اللعبة السياسية التي تتطلب من»النهضة» أن تظهر بمظهر الحزب اللائق بـ»إدارة الدولة وحفظ ضرورات صون الدستور واحترام القانون»، خاصة أن الحزب موضوع تحت مراقبة لصيقة من الأحزاب المدنية التونسية ومن قطاعات شعبية عريضة غير معجبة بالإسلام السياسي ككل.
ترى قطاعات عريضة من الشعب التونسي أن «النهضة» وظفت السلفية القتالية بنحو مزدوج، أولاً كذراع للتضييق على القوى السياسية المدنية، وثانياً كفزاعة لتسويق مشروعها وإقناع الآخرين باعتدالها، على طريقة إما نحن أو السلفية القتالية.
وإذا كانت «النهضة» قد استطاعت أن تحتوي السلفية المذهبية والسلفية المنظمة، إلا أنها عجزت عن السير بعيداً في ذلك مع السلفية القتالية، ذلك أن التركيبة النفسية والفكرية لعناصر الأخيرة، وامتلاكهم لثقافة محدودة وخبرة ضعيفة في العمل السياسي، وارتباطاتهم الخارجية وولائهم لقيادات أجنبية – ما يعمّق ضعف الرابطة الوطنية – جعل السلفيين القتاليين حلفاء لا يمكن الركون إلى احتوائهم.
إن تبني السلفية القتالية لطروحات إقصائية شديدة التطرف جعل من مهمة «النهضة» في ترويض هذه الكيانات المندفعة التي زادتها أجواء الحرية – التي قاربت حد الفوضى – في البلاد انفلاتاً وإحساساً بالغرور والاستعلاء مهمة مستحيلة.
وإجمالاً، مرت هذه العلاقة المعقدة بين الطرفين بمرحلتين مختلفتين: مرحلة أولى عقب الانتفاضة التونسية، حكمها قانون الاحتواء والاحتواء المضاد، ومرحلة ثانية ساد فيها منطق المواجهة والتحدي.

أجنحة السلفية القتالية:

السلفية القتالية في تونس ليست تياراً موحداً، بل هي تتشكل من عدة مجموعات، أهمها «أنصار الشريعة» بزعامة سيف الله بن حسين (أبو عياض)، الذي أدين في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي بالانتماء إلى «القاعدة»، وأطلق سراحه بعد الانتفاضة.
السلفية القتالية التونسية ولدت مغمسة بالدم، فالخميرة البشرية لهذا الاتجاه لم تولد في حلقات العلم وباحات الجامعات وفي ساحات الوطن، بل ولدت في أجواء الحرب في جبال أفغانستان، حيث انساق مئات الشباب التونسيين إلى هناك بحجة «الجهاد « ممن عرفوا بالأفغان العرب، وقد شارك بعضهم في ما بعد في حروب القاعدة في العراق ولبنان وليبيا وسوريا، ونفّذ بعض الشباب المندفع عمليات في تونس أيام حكم بن علي: كتفجير كنيس الغريبة اليهودي في جزيرة جربة (نيسان/ أبريل 2002)، وسبب الهجوم مقتل عدد من السياح الألمان.
كذلك قامت مجموعة تطلق على نفسها «جند أسد بن فرات» بمواجهات مع الجيش التونسي في الضاحية الشمالية للعاصمة، أدت إلى مقتل ضابط وجرح بعض العناصر، وقتل عدد من المسلحين. وتلتها عمليات اعتقال واسعة في صفوف هؤلاء القتاليين، خصوصاً التيار السلفي عموماً.

«أنصار الشريعة»: أبرز التنظيمات السلفية القتالية

أُعلن رسمياً تشكيل «أنصار الشريعة» في نيسان/ أبريل 2011 بعد ثلاثة أشهر فقط من سقوط نظام بن علي. وفي الندوة الصحفية التي عقدها التنظيم بحضور بعض قياداته، رفع شعار (اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا)، في اعتراف ضمني بأن الناس تحمل عن عناصر التنظيم رؤى سلبية وانطباعات قاتمة.
في هذه الندوة، صدم هؤلاء الرأي العام برفضهم التقدم بطلب رخصة للعمل القانوني، مدّعين أنهم لن يطلبوا تأشيرة إلا من الله!!
وهكذا يلتقي هذا الخطاب الخارجي (نسبة إلى الخوارج) مع مثيله لخوارج القرن الهجري الأول الذين رفعوا شعار «لا حكم إلا لله»!! إنها عقلية واحدة تطفو إلى سطح التاريخ مرة بعد أخرى بتسميات مختلفة.
بعد ذلك، عقد التنظيم مؤتمراً ثانياً في مدينة القيروان بما تختزنه من رمزية دينية وتاريخية، بحضور زهاء 5000 شخص، فيما تحدثت مصادرهم عن أضعاف هذا الرقم، لكنهم منعوا من عقد مؤتمرهم الثالث في أيار/ مايو 2013.
استغل هذا التنظيم أجواء الحرية التي لم ينعم بها التونسيون طوال عقود طويلة، ليحاول فرض مشاريعه وأطروحاته بالقوة على الناس، مع مناورة سلفية تقليدية، مفادها أن تونس «أرض دعوة» لا «أرض جهاد»، في الوقت الذي كانوا يعززون فيه قدراتهم التسليحية، ويمكنون أكثر فأكثر لجناحهم العسكري، ويقطعون أشواطاً في التنسيق مع تنظيمات قتالية إرهابية في مصر وليبيا.

«إنجازات مروّعة» لأنصار الشريعة»:

كان من الطبيعي أن يتصاعد الفعل العنفي لهذه الجماعة، وكان من المتوقع أن تفشل سياسة «النهضة» لاحتواء هذا الكيان الزئبقي، الذي لا يمكن أن تضبط إيقاعه، أو أن تعرف بدقة توجهاته، أو أن تؤثر في طريقة تفكيره، وهذه مشكلة دائمة يواجهها من يريد استخدام السلفية القتالية، وقد عانت منها طويلاً الولايات المتحدة والسعودية وباكستان، غير أن الولايات المتحدة في السنوات الثلاث الماضية أصبحت أكثر قدرة وحصافة وخبرة في مجال محاصرة الغول التكفيري، وإلزامه بخطوطها الحمراء وخططها البعيدة المدى.
لقد مارس تنظيم «أنصار الشريعة» ومن يقف وراءه كل أشكال الاستفزاز في حق الناس والبلاد، بـ»ذريعة الغيرة على الدين» تارة، و»الدفاع عن المقدسات» تارة أخرى، و»محاربة البدع والانحراف الديني» تارة ثالثة.
وتنوعت اعتداءات عناصر التنظيم الإرهابي لتشمل التضييق على الطلاب وأساتذة الجامعة والاعتداء عليهم، فكان الهجوم على معرض للفنون بحجة رسوم مسيئة إلى المقدسات، فاعتداء على ناشطين احتفلوا بيوم القدس العالمي بشمال البلاد.
لم تكن الساحة الشعبية أيضاً بمنأى عن منطقهم التطهيري، فحرقوا الحانات والمقاهي، ولم يسلم منهم حتى مشايخ الحركة الإسلامية ممن عرفوا بالاعتدال، كالشيخ عبد الفتاح مورو الذي فضح مخططات بعض البلدان الخليجية للهيمنة مالياً وإيديولوجياً على شبكة من الجمعيات ونشر الفكر الوهابي الهدّام في البلاد.
وقد اعتدوا أيضاً على مقامات بعض الأولياء والصالحين، وخربوا بعض الزوايا وقبور أصحابها.
وفي أيلول 2012، كان الهجوم على السفارة الأميركية إثر تظاهرات احتجاجية على الفيلم الأميركي المسيء إلى الرسول (براءة المسلمين).
وقد جاءت هذه الأعمال عقب تحريض من الظواهري ودعوة منه لـ»شباب تونس إلى الدفاع عن المقدسات».
ولن يتوقف مسلسل العنف السلفي عند هذا الحد، بل سيترقى ليشهد محاولات حثيثة لتهريب الأسلحة من ليبيا، وتخزينها، فاغتيلت رموز سياسية كشكري بلعيد (شباط/ فبراير 2013) ومحمد البراهمي (تموز/ يوليو 2013)، فاعتداءات على الجيش بجبل الشعانبي، وذبح ثمانية من عناصره (تموز/ يوليو 2013) وقتل 14 جندياً من الجيش في نفس المنطقة (تموز/ يوليو 2014).

من الاحتواء إلى الصدام:

اتسمت ردود «النهضة» على اعتداءات المجموعات السلفية بالبرودة في بداية الأمر، بل سقطت في محاولات تبرير الكثير من تصرفاتهم، بأن العلمانيين يستفزون هؤلاء الشباب بما يطلقونه من مواقف، أو يعرضونه من نتاج فني أو ثقافي، ويتعدون على هوية المجتمع ومقدساته. وكان الشيخ راشد الغنوشي يدافع عن هؤلاء الشباب «الذين يبشرون بثقافة جديدة ويذكرونه بشبابه»، حسب قوله الشهير.
واتهمت الأطراف السياسية المناوئة «النهضة» بالتواطؤ مع السلفيين، وبأنها تسعى إلى كسبهم كرصيد انتخابي. وفي الواقع، إن الأمر يتجاوز إشكالية الانتخابات وكسب أصوات هؤلاء إلى استراتيجية الاحتواء والتوظيف.
سعت «النهضة» جادة في إقناع هؤلاء بالعمل تحت سقف القانون، وعملت على إقامة علاقات تكامل معهم، وإلى إرضاء لقطاع واسع من قاعدتها الذين يحملون التوجه السلفي، بل هي حافظت بهذا الموقف المتسامح على وحدة الصف القيادي فيها، حيث تنحاز بعض القيادات النهضاوية في تفكيرها وتوجهاتها إلى هؤلاء كالحبيب اللوز وصادق شورو.
وقد سربت وثائق سرية من دوائر غربية، أفادت بأن اجتماعات عقدت بين الغنوشي وبين قيادات «أنصار الشريعة» عقب الثورة، دعا فيها الغنوشي زعيم التنظيم إلى تجنيد شباب في الجيش قصد اختراقه، وكذلك في الحرس الوطني.
ولكن كان من الطبيعي أن تفشل كل محاولات الاحتواء، وأن تنجح سياسة «أنصار الشريعة» في الاستظلال والاحتماء بـ»النهضة»، مستفيدة من موقعها القوي في السلطة، ومن قاعدة الحركة الإخوانية التي هي، في الجزء الأكبر منها، صاحبة ميول سلفية نتيجة سنوات التجهيل والمسخ الفكري في العهد البوليسي لحكم بن علي.
لكن انفجار السفارة كان منعرجاً حاسماً في علاقة «النهضة» مع هذا التنظيم، وبدأ معه منحى المواجهة من قبلها، إذ تصاعد مؤشر التحدي من قبل «أنصار الشريعة»، فكان الصدام المحتوم.

المواجهة :إلى أين؟

أحرج تفجير السفارة الأميركية الذي أدى إلى مقتل أربعة أشخاص وجرح العشرات، «النهضة» أمام حلفائها الأميركان والأوروبيين. وشكّل بداية تحول حقيقي في علاقتها مع السلفية القتالية، فقد تأكدت أنها لن تقدر على احتوائها وجرها إلى الأطر القانونية. وأيقنت أن هؤلاء التكفيريين أضحوا يهددون سمعتها وموقعها لدى الأطراف الخارجية، كما أحرجوها كثيراً أمام حلفائها المستلحقين لها في الحكم، (ولا سيما حزبا الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي ورئيس البرلمان مصطفى بن جعفر)، والقوى المعارضة لها في الداخل.
صعدت حكومة «النهضة» الأولى والثانية إجراءاتها ضد هذه الخلايا القتالية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، واتخذت إجراءات صارمة في حق تنظيم «أنصار الشريعة»، حيث اتهمته رسمياً بالضلوع في الهجوم على السفارة ومنعته من عقد مؤتمره الثالث (أيار/ مايو 2013).
وفي 27 آب 2013، أعلنت حكومة علي العريض تصنيف التنظيم كجماعة إرهابية. وهكذا قطعت «النهضة» مع «أنصار الشريعة»، واضطرت إلى إعلانها حرباً قانونية وأخلاقية مع التنظيم.
وتتوالى مواقف الحركة المتبرئة من الإرهاب والإرهابيين بعد السعي المحموم إلى تحميل «النهضة» مسؤولية الاغتيالات السياسية وكل الأعمال الإجرامية التي شنتها هذه الخلايا التكفيرية القتالية. وصرحت قيادات «النهضة» في أكثر من مناسبة بنبذها لهذه الجماعات وخياراتها وامتداداتها في الخارج، ونددت بـ»داعش» و»جبهة النصرة»، وأعلنت رفضها أسلوب العنف والقتل في التغيير، فيما يتهم البعض «النهضة» بممارسة سياسة تصدير الرؤوس الحامية للسلفية القتالية إلى العراق وسوريا لتنفجر في وجه محور الممانعة، لتجني بذلك أرباحاً مضاعفة: التخلص من هؤلاء، والإسهام في المجهود الحربي للمحور التركي القطري بوجه الممانعين. وتشير الإحصاءات إلى وجود 3000 تكفيري تونسي في صفوف «داعش» و»النصرة» وباقي التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا، مقابل أقل من 200 جزائري (يبلغ عدد السكان في تونس ربع عدد السكان في الجزائر).
وفي موقف لافت، وصف الغنوشي السلفية التكفيرية بالحمق، (نيسان/ أبريل 2014) لأنها سبّبت سقوط حكومتين بعد الانتفاضة، حكومة الجبالي وحكومة العريض، فبعد كل اغتيال سياسي كبير لأحد رموز المعارضة، كانت «النهضة» تقدم تنازلاً حكومياً، فمع سقوط حكومة الجبالي تنازلت «النهضة» عن الوزارات السيادية، وخسر صهر الغنوشي رفيق عبد السلام موقعه في وزارة الخارجية، فيما تنازلت عن موقع رئيس الحكومة نفسه بعد سقوط حكومة علي العريض.
ولكن هل تساعد هذه المواجهة المتأخرة «النهضة» في جبر ما خسرته من جماهيرية قبيل الانتخابات التشريعية القادمة؟ هل تنجح النهضة في تدارك الوضع والمحافظة على موقعها الانتخابي الحالي؟ أم أن الأوان قد فات وأن القطيعة والمواجهة مع السلفية التكفيرية جاءت متأخرة جداً، ولا سيما أنها لم ترفع الشارة الحمراء بوجهها إلا لما وصلت شظايا إرهابها إلى السفارة الأميركية؟
*باحث تونسي