غزة | «لم تنته الحرب»، هذا ما يمكن رؤيته في عيون مئات الأطفال الغزيين الذين يعيشون حالة نفسية صعبة، وخاصة أن عدداً كبيراً منهم أضحى وحيد العائلة، التي استشهدت جميعها. بعد نحو شهرين على وقف آلة الدمار عملها بدأت الجراحات تطفو مع ما يقارب 1800 يتيم فقدوا آباءهم وحتى أمهاتهم وإخوتهم.

وليس صحيحا أن ذاكرة الطفل تنسى بسهولة، ولا سيما إن كانت المشاهد هي القتل والخراب، وجثث أحبائهم مشوهة ومحروقة. بيسان ضاهر واحدة من أولئك، وقد قطعت دموع كثيرة محاولة «الأخبار» التحدث معها. ففي الشهر الأول من الحرب ارتكب الاحتلال مجزرة في حي الشجاعية خلفت 72 شهيداً، بينهم والد ووالدة بيسان (7 سنوات)، وتعيش الآن مع شقيقتها الكبرى. بدت علامات الصدمة واضحة على الطفلة التي لم تستطع إلا تركيب جملة واحدة: «ما عملنا شي، نفسي أموت».
وتؤكد شقيقتها الكبرى، نهى (28 عاماً)، أن بيسان لا تزال في حالة الصدمة «لأنها لا تنام إلا وهي تبكي وتنادي على بابا وماما»، مشيرة إلى أنه بعد عرضها على اختصاصيين شددوا على ضرورة أن تتلقى جلسات علاجية «طويلة الأمد».
«أتمنى الموت» لم تنطق بها بيسان فقط، فقد قالها أيضاً أمير (11 عاماً) ونور (6 أعوام) حمد وهما يتيما الأب والأم. أمير اليوم هو أكبر إخوته و«ربّ البيت» كما يصف حاله بعد استشهاد والده حافظ حمد ووالدته سها في غارة استهدفت منزلهم في بيت حانون (شمال)، وتحديداً في التاسع من تموز الماضي، ما أدى إلى استشهادهما مع أربعة آخرين من العائلة نفسها. ويعيش الطفلان منذ ذلك الوقت مع جدتهما عفاف (60 عاماً) في منزل استأجرته في مدينة غزة بعدما دمر المنزل بالقصف. يقول أمير: «سأهتم بإخوتي وأعتني بهم... سأعلّم أختي لميس (4 شهور) تنادي بابا وماما».
وتعكف جمعيات متخصصة ومؤسسات خيرية على رعاية الأيتام، وجلّ اهتمامها في الوقت الحالي البحث عن كفالة مالية ومعنوية لهم. في السياق، تقول المديرة العامة للرعاية الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية، اعتماد الطرشاوي، إن هناك نحو ألفي يتيم بفعل الحرب الأخيرة، متوقعة أن الوزارات والمؤسسات ذات العلاقة ستواجه أزمة في استيعاب هؤلاء الأطفال وتقديم الرعاية إليهم.
وبينما تبقى حال اليتيم الذي فقد أحد أبويه أهون من غيره، فإن بعض العائلات تساهم في كفالة أيتامها وحدها، وخاصة أنه في غزة لا يوجد تقريباً سوى مركز واحد لمبيت الأيتام، هو معهد «الأمل». ويؤكد مدير المعهد، عبد المجيد الخضري، أن الأطفال هم بحاجة ماسة إلى رعاية نفسية عاجلة ولمدة طويلة «حتى يتمكنوا من التعافي ممّا تعرضوا له من مواقف»، وأضاف: «عمليات القتل التي مارستها «إسرائيل» ضد الأطفال وعوائلهم كانت عنيفة وكبيرة، خلقت حالة من الكبت واليأس لدى الأطفال، خاصة من فقدوا آباءهم».
وبيّن الخضري، لـ«الأخبار»، أن نتائج الدراسة التي أجريت على الأيتام الملتحقين في «معهد الأمل» كشفت أن الغالبية العظمى أجابوا عن سؤال «هل تحب أن تموت؟» بنعم، مشيراً إلى أنهم يعانون مشكلات تتعلق بالتمويل والحاجة إلى ميزانيات كبيرة لتأهيل الأيتام والعناية بهم. وذكر أن القدرة الاستيعابية للمعهد تصل إلى 120 يتيماً كحد أقصى، وقريباً سيجري افتتاح طابق آخر لرفع القدرة الاستيعابية إلى نحو 300 يتيم.
ويقدر اختصاصيون نفسيون أنه في المرحلة الأولى يصاب الطفل بحالة إنكار للفاجعة فيرفض تصديقها، ويتوقع أن الشخص العزيز عليه سيعود، ثم في مرحلة أخرى يأتي ألم الفقدان والبكاء والحالة النفسية السيئة. وكانت أرقام صادرة عن الأمم المتحدة قد قدرت بعد الحرب مباشرة أن 373 ألف طفل، على الأقل، سيتأثرون نفسياً من الحرب الإسرائيلية الثالثة خلال ست سنوات، فيما تفيد إحصائية رسمية لوزارة الشؤون أن عدد الأيتام في غزة، من الحرب وغيرها، يصل إلى قرابة 20 ألفاً.