القاهرة | لم تنشغل الساحة السياسية المصرية منذ «30 يونيو» 2013 بسؤال بقدر انشغالها بمسألة مستقبل العلاقة بين النظام الجديد و«الدعوة السلفية الاسكندرية»، وجناحها السياسي ممثلاً بـ«حزب النور».
مع توالي الأحداث والمتغيرات وتوالي نوبات المد والجزر بين الطرفين، تزيد التكهنات حول قرب انتهاء العلاقة وفق المؤشرات الصادرة من السلطة بالتضييق على الدعوة ومدارسها وشيوخها، وآخرها مصادرة أكثر من 1500 شريط كاسيت لشيوخ الدعوة السلفية من مساجد الإسكندرية فقط.
سبق ذلك تصرف آخر من السلطة أغضب الدعوة السلفية التي هدّد نائب رئيسها ورجلها القوي ياسر برهامي باللجوء إلى القضاء بسبب رفض وزارة الأوقاف إصدار تصاريح الخطابة له ولرموز الدعوة السلفية.
لجوء برهامي إلى القضاء جاء بعد فشل جلسات حوار ودية متتالية بين الدعوة والأوقاف لحل أزمة انفجرت منذ إصدار الرئيس المؤقت المنتهية ولايته عدلي منصور قانون «تنظيم الدعوة والخطابة» الذي قصر حق الوعظ والخطابة وإلقاء الدروس الدينية في المساجد والزوايا على منتسبي وزارة الأوقاف والأزهر الشريف، وكذا منع «صلاة الجمعة» في الزوايا الصغيرة.
«الدعوة» تحاول إبراز وجودها كأمر ضروري لامتصاص الحالة الدينية المحتقنة

وجرم القانون بـ«عقوبتي الحبس والغرامة من ألقى خطبة أو درساً دينياً من دون الحصول على ترخيص من الأزهر أو الأوقاف»، مانحاً حق «الضبطية القضائية» للعاملين المتخصصين في وزارة الأوقاف، وهو ما ترتب عليه منع الوزارة لعدد من خطباء السلفيين المشهورين من خطبة الجمعة، سواء التابعين لكيان الدعوة السلفية، أو المحسوبين على السلفية الوعظية وأبرزهم أبو إسحاق الحويني، ومحمد حسين يعقوب ومحمد حسان.
القانون الذي صدر ضمن حزمة أصدرها الرئيس المؤقت عدلي منصور في أيامه الأخيرة في الحكم يعتبر بداية لتأميم الخطاب الديني لمصلحة الدولة، وتحجيماً للدور السلفي في المجتمع بعد انتهاء دور «الإخوان» عقب «3 يوليو» 2013 (تاريخ عزل الرئيس محمد مرسي)، آتياً كامتداد لسلسلة القوانين والإجراءات التي اتخذتها الدولة المصرية بهدف «تأميم» الخطاب الديني ومصادرته مرات عدة، أبرزها أثناء المواجهات مع الجماعات الإسلامية في التسعينيات من القرن الماضي.
الباحث في مجال الشرع، أحمد سمنة، يرى في حديث إلى «الأخبار» أن «الدولة تحاول تأميم الخطاب الديني وحصره في دعاة الأزهر كي يكون هو المرجعية الدينية الإسلامية الوحيدة في مصر»، نظراً لخصومتها الحالية مع جماعة الإخوان المسلمين، وبداية تحجيم دور الدعوة السلفية في مصر.
ويضيف سمنة أن «الأزهر يمتلك الموارد المالية والبشرية التي تؤهله للقيام بدوره الدعوي كاملاً، لكن السؤال الرئيسي، هل تمتلك كوادر الأزهر القدرة على ملء الفراغ الدعوي الناتج من تحجيم الدعوة المجتمعية التطوعية؟»، مقرّاً بأن المستوى السيّئ والضعيف لخطباء الأزهر حالياً لا يؤهلهم لذلك، إلا إذا استثتمرت الدولة في الجيل الصاعد من طلبة الكليات الشرعية وأعادت صياغة المناهج والمقررات الدراسية لهم لتأهيلهم لتأدية «الدور الحقيقي» للواعظ والخطيب الأزهري، وهو ما سيستغرق سنوات عدة ولن تظهر نتائجه سريعاً في الوقت الحالي، الأمر الذي يعني، وفقاً للباحث، أن «الدعوة» بمفهومها الواسع ستعاني الظلم خلال الفترة المقبلة، نتيجة انتهاء الإخوان المسلمين المطاردين من قبل الدولة، وتحجيم الدور السلفي في المجتمع ومنع قياداتهم من الخطابة، معطوفاً على السخط المجتمعي عليهم بشكل عام، إضافة إلى أن «أنصار السنة» و«الجمعية الشرعية» لا تمتلكان التأثير الدعوي الكبير كالإخوان أو السلفيين، خاصة «الجمعية الشرعية» التي تعنى بالعمل الخيري بالأساس.
من جهته، يرى الخبير في مركز «سيتا» التركي للدراسات السياسية والاستراتيجية، مصطفى زهران، أن القانون نتيجة طبيعية لخريطة الطريق ما بعد مرسي التي تستهدف إعادة رسم خريطة المجتمع السياسي والديني المصري. وهو كذلك، وفقاً لزهران، امتداد لظهور شيخ الأزهر في كل المحطات السياسية المهمة التي وقعت بعد عزل مرسي، ما شكل رسالة واضحة بأن الأزهر سيكون له دور قوي وفعال في ظل غياب أو تغييب تيارات الإسلام السياسي، التي هي مشغولة بالأساس بمواجهتها المستمرة مع الدولة، وبقاء «حزب النور» في مشهد الموالاة للسلطة كممثل وحيد للإسلام السياسي.
وتوقع زهران لـ«الأخبار» أن يسهم القانون في صناعة مشهد آخر من مشاهد الأفول الدعوي «سيطال كل التيارات الإسلامية، حتى تلك غير المشتغلة بالسياسية، كالجمعية الشرعية والتبليغ والدعوة وأنصار السنّة المحمدية، لأن الدولة لن تترك لهم أي فرصة أو مساحة للمناورة خلال الفترة المقبلة، باعتبار أن شعار المرحلة هو محاربة الإرهاب، ونظرة الدولة إلى هذه الكيانات على أنها أخرجت أفكار التشدد والتكفير والزندقة والتبديع للمجتمع». وخلص زهران إلى أنه من الواضح أن النظام والأزهر عقدا العزم على عودة مصر إلى خطابها الديني المعهود والتاريخي وعقيدتها «الأشعرية الماتريدية»، ولن تسمح مرة أخرى لتيارات الإسلام السياسي بالتمدد، وهو ما يبرزه قانون إعطاء «حق الضبطية القضائية لبعض موظفي الأوقاف».
من جانبه، قال صلاح الدين حسن، الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية، إنه بالأساس لم يكن هناك «شهر عسل» بين الدعوة السلفية والنظام المصري، لأن «الدعوة السلفية لم تحصل على أي امتيازات نظير مشاركتها في تحالف 3 يوليو، إضافة إلى ما توضح من خطابات الرئيس عبدالفتاح السيسي من أنه لن يسدد فواتير لأحد، وهو ما يتلاقى مع اعتقاد الدولة الراسخ بأن الدعوة السلفية مفرخة لأفكار التكفير، بدليل اكتشاف أعضاء في الخلايا المسلحة التي تم القبض عليها أخيراً كانوا أعضاءً سابقين في حزب النور، كما أن الكتب المنهجية للسلفيين تحتوي على أفكار تكفيرية، حتى وإن كانت تكفيراً حكمياً وليس تكفيراً نوعياً».
وأضاف حسن أن الدعوة من جانبها تحاول إبراز وجودها كأمر ضروري لامتصاص الحالة الدينية المحتقنة، بديلاً من التطرف، وهو ما لا يبدو أن الدولة مقتنعة به ومصرة على الفصل التام بين العمل الدعوي والعمل السياسي، حتى مع إظهار السلفيين نوعاً من المرونة تجاه تعاملهم مع الدولة، وهو ما ظهر مثلا في الجمعية التأسيسية المكلفة بتعديل الدستور وتراجع السلفيين عن أفكار ونصوص كانوا مصرّين عليها وقت حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، إضافة إلى كثرة الزيارات من قيادات السلفيين لوزارة الأوقاف وشيخ الأزهر من أجل توفيق الأوضاع.
مستقبل العلاقة بين السلفيين والدولة ليس مظلماً بشكل كامل وفق المحددات التي تحكم علاقة الطرفين، بحسب رؤية صلاح الدين حسن، لأن الدولة لن تقضي على الدعوة بشكل كامل ولن تقوم باعتقال أنصارها وتكرار ما جرى للإخوان على مدار العام الماضي، إلا في حال حاولت الدعوة التمدد وملء الفراغ الذي خلّفه «الإخوان». ورأى حسن أنه «وقتها عليها أن تتوقع عقاب الدولة لها والتضييق عليها، وهو أمر تدركه الدعوة، كما تدرك أيضاً أن الدولة بحاجة إلى غطاء شرعي إسلامي في انتخابات البرلمان المقبلة، ما يجعلها تتحرك في مساحة واسعة نسبية للمناورة مع الدولة».
من جهته، يرى عمر غازي، الباحث في مركز الدين والسياسة للدراسات، إنه رغم تأييد الدعوة السلفية لقرارات «3 يوليو» ينظر النظام إليها بتوجس شديد ولن تكون في مأمن عن النظام كما تظن هي، فالتعامل معها لن يكون بعيدا عن تعامل نظام الرئيس حسني مبارك، الذي تراوح بين القمع والشد والجذب والحريات ذات الأسقف المنخفضة في ظل التفاهمات الأمنية.