كشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن فجوات كبيرة تفصل بين التأهيل والتجهيز الذي يفترض أن يكون متوافراً لدى جيش العدو، وبين مستوى التهديد الذي تمثله الأنفاق الهجومية في قطاع غزة. ورأت في تحقيق مطول "أنّ المجلس الوزاري المصغر تردد طويلا قبل الموافقة على العمليات البرية لتدمير الأنفاق".وتتجلى أهمية هذا التحقيق ونتائجه، في جوانب عدة، بدءا من الفشل المهني، بشقيه الاستخباري والعملاني، وصولاً إلى المسؤولية السياسة، والسجالات الحادة داخل الحكومة وتحديداً في معسكر اليمين.

على المستوى المهني، تبدأ نقطة الانطلاق في تشخيص طبيعة ومسار التهديد، قبل وخلال وبعد تبلوره، وتمرّ بتحديد مستوى الخطورة التي يمثلها، وصولا إلى إعداد خطط عملانية مقابلة تتطلّب بدورها خطّة بناء قوة، وإعداداً للقوّات من أجل تنفيذ مهماتها.
التساؤلات التي قد تكون محور التحقيق على ضوء المسار المشار إليه تبدأ من الاستخبارات التي سيكون عليها الإجابة عن سؤال يتعلق باكتشافها الأنفاق الهجومية في الوقت الملائم، أم أن القضية مثلت فشلاً نوعيا اضافياً؟
وإذا ما كانت قد اكتشفت الأنفاق وانتشارها، فهل استطاعت أن تحدد مستوى تهديدها؟ وعلى ذلك، هل أنذرت الاستخبارات القيادتين، السياسية والعسكرية، من أجل العمل على خطّة مضادة لمعالجتها؟
في ما يتعلق بالمستوى السياسي، هل تعامل، هو الآخر، كما يجب مع ما قدمته الاستخبارات من إنذارات، أم كان له تقديرات مغايرة؟ ويحضر في هذا المجال إمكان أن يكون للاعتبارات السياسية حضورها في تحديد الخيارات العملانية التي تتبناها القيادة السياسية خلال العدوان على القطاع، أم قبله.
على المستوى العسكري، ينبغي لقيادة الجيش أن تجيب عن الاتهامات التي قد توجه إليها إذا صحّت نتائج هذا التحقيق الصحافي، والتقت مع نتائج التحقيق الرسمية، وخاصة لجهة عدم الاستعداد للتهديد الذي تمثله الأنفاق.
وأيضا تحضر المسؤولية السياسية عن كل هذا المسار، باعتبارها تمثل رأس هرم صناعة القرار السياسي والأمني، كما لا يخفى حضور الاعتبارات والسجالات السياسية التي ستستغل نتائج أي تحقيق في هذا الاتجاه أو ذاك.

ماذا قال التحقيق؟

أكد تحقيق "هآرتس" أنّ المستوى السياسي تردد طويلاً قبل الموافقة على العملية البرية لتدمير الأنفاق، في ظلّ تحفظات داخل الأجهزة الأمنية. ولفت إلى أن الهجوم الجويّ على فتحات الأنفاق صعّب على القوات البرية، بعد دخولها إلى القطاع، الوصول إلى مسار الأنفاق، فضلاً عن أن القوات البرية كانت تنقصها الوسائل الملائمة لتفجير الأنفاق بعد تحديد مواقعها.
وفيما لفتت الصحيفة إلى أن التحقيق استند إلى محادثات مع 20 شخصية، كان لهم دور أساسي في الحرب والموافقة عليها، نقلت عن ضابط في سلاح الهندسة قوله، إنّ "الكشف عن ثلاثة أنفاق قبل الحرب أعطى إسرائيل صورة صحيحة متناسبة مع التهديد الذي تسببه هذه الأنفاق".
واستخدمت الأنفاق في السابق "للتهريب والتفجير"، وهي ضيقة ومن الصعب التحرك في داخلها، فيما الأنفاق الأخيرة أشارت إلى أمر مختلف تماماً، فهي أوسع، وداخلها أجهزة اتصال، وجرى حفرها عميقاً تحت سطح الأرض، وجدرانها محصّنة بطبقات من الإسمنت، كما يمكن التحرك فيها بقامة منتصبه بسهولة.
إلى ذلك، أكّد الضابط أن "الجيش أدرك في ذلك الوقت أنّ الحديث لا يجري عن تهديد تكتيكي موضعي يواجه قوات الجيش على طول الجدار، بل عن جزء من مشروع أوسع وأخطر، وخاصّة أن استخدامه لا يقتصر على خطف جندي، بل لتحريك قوة عسكرية كبيرة إلى داخل إسرائيل".
في هذا السياق، يضيف التحقيق أنه منذ 2013 دأبت الاستخبارات العسكرية على تقديم تقرير شهري إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الجيش موشيه يعلون، وقادة الأجهزة الأمنية، يتضمّن استعراضاً لكلّ الأنفاق الهجومية المعروفة، ومسار كل واحد منها، لكن التحقيق يؤكّد، في مكان آخر، أنّ أعضاء المجلس الوزاري لم يعرفوا بشأن التقرير الاستخباري الشهري الذي كان يقدم آنذاك.
من جهة أخرى، توضح "هآرتس" أنه جرى تخصيص موارد خاصة لقيادة الجيش في الجنوب تشمل وسائل وأنظمة جمع معلومات استخبارية، وقوات إضافية، وذلك لمعالجة خطر الأنفاق، كما نقلت عن ضابط كان يخدم في "كتيبة غزة" أنّ الأنفاق كانت على رأس أولويات الكتيبة.
مع ذلك، يؤكد التحقيق أن الحلول التكنولوجية لتحديد الأنفاق، التي كانت قد درستها "هيئة تطوير وسائل القتال"، لم تتضمن رداً يسمح بتحديد فتحات الأنفاق في الجانب الإسرائيلي.

تعليمات المستوى السياسي

لجهة تعليمات المستوى السياسي، لفت تحقيق الصحيفة إلى أن السياسة التي فرضتها الحكومة وقيادة الأركان، منعت شنّ هجمات استباقية في الجانب الفلسطيني من السياج الحدودي، إذ لم تقصف مسارات الأنفاق المحدّدة من الجو، كما لم ترسل قوّات برية لتدميرها، وذلك خشية أن "تؤدّي هذه الخطوة الاستباقية إلى اندلاع المواجهات العسكرية مع حركة حماس".
وبرغم أن إسرائيل بدأت تتحدث عن القتال تحت الأرض في أعقاب الحرب على لبنان (تموز 2006)، فعلى أرض الواقع اكتفى الجيش بإقامة ثلاثة أنفاق قصيرة نسبياً في ثلاث قواعد للتدريب، في الشمال والوسط والجنوب. وظهر أن أحد هذه الأنفاق كان قناة قتالية عاديّة مسقوفة، لا ميداناً قتالياً معقداً.
وضمن جزء من التعبير عن غياب الاستعدادات الكافية، أوضح أحد الجنود أنّ غالبية القوات البرية والوحدات الخاصة شاركت في تدريبات قصيرة على هذه الأنفاق، دون أن يكون لها أي مضمون حقيقي. ويقول إن الجنود هبطوا بواسطة حبل إلى داخل موقع يشبه "المحمية الطبيعية"، الخاصة بحزب الله، في منطقة مفتوحة، وبذلك انتهت عملية تعريفهم بالقتال تحت الأرض. وكذلك أشار التحقيق إلى أنّ الاستعدادات في وحدات الاحتياط والهندسة القتالية، كانت تراوح ما بين السطحية، وحتى غيابها التام.
أيضاً، نبهت "هآرتس" إلى المقابلة مع القائد العسكري لمنطقة الجنوب، سامي ترجمان، وكان واقفا إلى جانب نفق. في ذلك الوقت، وصف ترجمان الأنفاق الهجومية بأنها التهديد المركزي الذي يجب أن تواجهه القيادة. مع ذلك، فإن المجلس الوزاري المصغر لم يناقش "تهديد الأنفاق"، بل إن وزراء أكدوا أنهم لم يكونوا على اطلاع عميق على هذه المسألة.
هكذا تكون القوات البرية قد دخلت دون خطة مفصلة، وبمعلومات عملية لا تتجاوز الحدّ الأدنى، وخطط جرت بلورتها تدريجيا مع كميات غير كافية من الوسائل لتدمير الأنفاق. يضيف التحقيق أنه في الأسابيع التي سبقت العمليات البريّة تمكنت الاستخبارات من تحقيق تقدم ما في مجال الكشف عن فتحات الأنفاق في الجانب الفلسطيني من الحدود. "مع بدء التصعيد في الثامن من تموز، فإن سلاح الجو قصف هذه الفتحات بطريقة منهجية خشية أن تبادر حماس إلى استخدامها، ولكن القصف، كما يبدو، لم يجعل الأنفاق غير صالحة للاستخدام".
ويقرّ رئيس أركان الجيش، بيني غنتس، بأنّ ذلك صعَّب الكشف عن مسار الأنفاق في الجانب الفلسطيني من الحدود. وهو ما تطابق مع قول ضابط آخر حكى أن الاستخبارات نفذت عملا جيدا، "لكن لم يكن هناك دقة كافية في تحديد مسارات الأنفاق".

صعوبة تدمير الأنفاق

التحقيق يقول إنّ الجنود الإسرائيليين فوجئوا بعدد الفتحات وبتفرّعات الأنفاق، وتبيّن أنه لم يكن لدى الجيش ما يكفي من الأدوات لتدمير عدّة أنفاق في الوقت نفسه. وقال ضابط هندسة إن طاقم كل كتيبة عالج نفقين، ثم بدأ بالنفق الثالث. ويضيف: "بسبب النقص في الآليات بدأت عملية تدمير الأنفاق على نحو متتال، لا متواز، إذ لم تتوافر القدرة على تدمير 32 نفقاً في الوقت نفسه، واضطر الجيش إلى تجنيد كميات كبيرة من الجرافات والآليات الثقيلة من القطاع الخاص، بل بعض هذه الآليات تعود إلى شركات يملكها مواطنون عرب".
وتتابع "هآرتس" في تحقيقها أن الأساليب والوسائل التي كانت لدى الجيش الإسرائيلي تتلاءم مع الأنفاق القصيرة والقريبة من سطح الأرض، وكان الجيش قد اشترى في العقد الأخير منظومة تعمل على ضخ كميات كبيرة من المواد المتفجرة إلى داخل النفق، دون أن ينزل الجنود إلى داخله. وكبديل، اضطر الجيش إلى استخدام 500 ألف لغم، ومواد متفجرة أخرى، وجرى ربط الألغام بسلسلة إلى داخل فتحة النفق. في معظم الحالات، "كانت تدمّر الأنفاق جزئيا، رغم أنّ سلاح الهندسة شدّد على أنه يجب تدمير غالبية النفق حتى يستطيع الضابط التوقيع على اعتبار النفق مدمراً وغير صالح للاستعمال".
ونقل عن جنود احتياط قولهم إنّ هذه هي المرة الأولى التي يجربون فيها تدمير نفق، فهم تخصصوا في تدمير المباني في لبنان وغزة، وهو أمر مختلف تماما. ويقول ضابط احتياط إنّ أحداً لم يعرف أو يخطط مسبقاً كيف سيعالج أمر الأنفاق، وحدث ذلك تلقائيا على الأرض.
كذلك، يشرح جنود في الهندسة القتالية أنهم أجروا تدريبات في السنوات الأخيرة على القتال تحت الأرض، "لكن هذه الأنفاق أمر مختلف". ففي التدريبات، "جرى إدخال آلي (روبوت) إلى الداخل، يتبعه جندي مسلح بمسدس، بينما تحتاج غزة إلى نظرية قتالية مغايرة".
أما عن اطلاع المستوى السياسي على ذلك، فاختتم التحقيق بأنّ نصف أعضاء المجلس الوزاري شغلوا مناصبهم بعد انتخابات 2013، وقضوا جلّ وقتهم في مناقشة خطر المشروع النووي الإيراني، والتطوّرات على الحدود مع سوريا ولبنان، "أمّا خطر الأنفاق، فقد ذكر كبند ملحق في تقويم الوضع"، كما قال الوزير نفتالي بينيت.