إسطنبول | كان يكفي أن تعلن واشنطن نيتها لتدريب 5 آلاف عنصر من «المعارضة السورية المسلحة» في إحدى القواعد العسكرية في السعودية، حتى تصعّد أنقرة لهجتها تجاه واشنطن التي لن تتمكن من الاستغناء عن تركيا في حربها المعلنة على تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش).
تملك تركيا حدوداً مع سوريا بطول ٩٠٠ كلم، ومع العراق بطول ٣٦٠ كلم. هي عضوٌ في حلف «شمال الأطلسي»، وتملك ثاني أكبر جيش فيه. أما الدور البالغ الأهمية الذي تؤديه تركيا في هذه الحرب، فهو يرجع إلى علاقاتها الواسعة مع المجموعات المسلّحة المقاتِلة في سوريا، منذ بداية الأزمة.
وجاءت تصريحات نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، التي حمّلت تركيا والسعودية مسؤولية ولادة تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» والجماعات الإرهابية الأخرى، لتثبت مدى «الحرج» في علاقة واشنطن مع حليفتيها. إعلان بايدن تلاه تصعيدٌ من قبل تركيا تجلّى في إصرارها على ضرورة إقامة منطقة عازلة ومنطقة حظر جوي في الشمال السوري، ما عكس إصرار أنقرة على التمسك بورقة «المعارضة السورية المعتدلة»، كي تبقى صاحبة القول الفصل، في المرحلة المقبلة، بالنسبة إلى مستقبل النظام وتقرير مصيره ومصير سوريا عموماً. كذلك، واصل الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو، طوال الأيام الماضية، حديثهما عن ضرورة «التخلّص من الرئيس السوري بشار الأسد»، جنباً إلى جنب مع الخطة الأميركية لمحاربة «داعش». واتهم أردوغان الأسد بالتنسيق والتعاون مع «داعش» من جهة ومع حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني» السوري من جهة أخرى، عندما أعلن أن «الأسد كان وراء المظاهرات الساخنة التي شهدتها تركيا أخيراً»، في محاولةٍ منه لكسب تأييد الأتراك لمشاريعه العسكرية المستقبلية في سوريا أولاً، ولإقناع واشنطن بصحة تقويم أنقرة للأمور في بلاد الشام والمنطقة ثانياً، وهو ما سيدفعها برأيه إلى المزيد من التنسيق معها فقط.
تريد تركيا أن
تكون صاحبة القول الفصل في مستقبل النظام السوري
وجاء تصريح وزارة الخارجية الأميركية عن قبول أنقرة تدريب «المعارضة السورية المعتدلة» للتغطية على الإصرار التركي على هذا المطلب، الذي يبدو أن السعودية قد أدركت خطورته عليها.
الرياض ردّت، على جبهة أخرى، عندما خرج وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل بتصريحاتٍ نارية ضد الأسد، وبصورةٍ أكثر أهمية، ضد إيران. وكانت معلومات قد تحدّثت، قبل ذلك التصريح، عن صفقة أسلحة جديدة بين الرياض وواشنطن بقيمة ١،٢ مليار دولار.
أما الورقة الأكثر أهمية في مساومات الرياض مع الإدارة الأميركية، فهو ضخّها لمزيد من براميل النفط يومياً، وحديثها عن استعدادها لخفض أسعار النفط حتى ٨٠ دولاراً، في محاولةٍ جديدة منها لإثبات أهميتها بالنسبة إلى الحسابات الأميركية. ومن دون أن يكون واضحاً ما إذا كانت هذه الإغراءات كافية أو لا بالنسبة إلى واشنطن التي ما زالت مستمرة في حوارها مع طهران لحسم موضوع الملف النووي، مدركةً جيداً أن إيران ـ وهي العنصر الأهم في الحرب على «داعش» ـ لن تتخلى عن حليفتها الاستراتيجية دمشق، تماماً مثل روسيا التي تملك الكثير من الأوراق في مساوماتها الإقليمية والدولية.
وفي وقتٍ بات فيه معروفاً، خصوصاً بالنسبة إلى واشنطن والسعودية وحلفائهما الخليجيين، أن طهران تملك كذلك أوراقاً عدة في هذا المجال، وهي أكثر فعالية وتأثيراً من ورقة «حزب الله»، ولعلّ ما يفسّر ذلك بوضوح هو سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء ومدن أخرى من دون ردود فعل دولية مهمة. وتكمن أهمية هذا الجانب في امتلاك اليمن لحدودٍ بطول ألفين كلم مع السعودية، وتسيطر على مضيق باب المندب، حيث بات الحوثيون قاب قوسين أو أدنى من الممر المائي الذي يعد المدخل الجنوبي للبحر الأحمر والممر الاستراتيجي للبترول إلى أوروبا.
وفي سياقٍ سياسي متصّل، جاءت نتائج الاجتماع الطارئ لقيادة «الائتلاف السوري المعارض» في اسطنبول، بمنزلة الهزيمة الأكثر أهمية للدبلوماسية السعودية، بعد إعادة انتخاب أحمد طعمة رئيساً لـ«الحكومة السورية المؤقتة»، على الرغم من اعتراض قيادة «الائتلاف» الموالية للسعودية على هذا الانتخاب الذي يعني عودةً لسيطرة تركيا وقطر على «الائتلاف». وتعي أنقرة أن سيطرتها عليه، تجعلها أكثر قوةً في مساوماتها مع واشنطن، ضد السعودية. وفي ضوء ذلك، بات واضحاً أن هزيمة أنصار السعودية وسيطرة تركيا على المعارضة السورية بشكلها الحالي والمستقبلي، سيعني الكثير بالنسبة إلى الرياض وحليفتيها الرئيسيتين القاهرة وأبو ظبي.
وتعرف السعودية أن أنقرة ومعها الدوحة ستستمران عبر النائب السابق للرئيس العراقي طارق الهاشمي في رهاناتها على العشائر السنّية في سوريا والعراق، ما دامت السيناريوات الأميركية تتحدث عن تقسيم العراق، ولاحقاً سوريا. وهي السيناريوات التي تريد أنقرة أن تخدم مصالحها الاستراتيجية سياسياً واقتصادياً وعقائدياً أيضاً. فالدعم الأميركي لها يعني في الوقت نفسه تبنّي ورقة «الإخوان المسلمين» عربياً وإقليمياً ودولياً، وبالتالي الرضا عن التحالف التركي ـ الكردي وفق الخريطة المستقبلية للمنطقة.
وهو سيعني المزيد من المصالح الاقتصادية، خصوصاً في ظلّ سيطرة «السنّة» في العراق وسوريا، بمن فيهم «داعش» والأكراد، على مناطق النفط والغاز والمياه ذات المنابع التركية، أي نهري دجلة والفرات.
هذه المعطيات تثبت بوضوح أن «التحالف الدولي» ضد «داعش» لن يكون قوياً ومتماسكاً، ما دام الخلاف العقائدي بين تركيا والسعودية مستعراً، رغم مساعي واشنطن لتحقيق المصالحة العاجلة بحجة «خطر داعش المشترك الذي يهدد أولاً السعودية». فيما قد ترى أنقرة في «داعش» فرصة ثمينة لتحقيق الكثير من مشاريعها الإقليمية، خصوصاً في ظلّ ما بدا أنه علاقة «عضوية» بين «داعش» وبين تاريخ تركيا وجغرافيتها العثمانية. بالإضافة إلى الحلم التركي ـ الداعشي المشترك في «الإمبراطورية الإسلامية»، وهو الحلم الذي ترى تركيا أنها عاجزة عن تحقيقه من دون التخلص من الدور والثقل السعوديَّين.