كان المشهد السياسي، في مصر الرسمية، هذه الأيام، مهيَّأً لعرض مسرحي تاريخي، على خشبة مجلس النواب المصري. مصر ــ الشعب غاضبة ومُحبطة في الأزقّة والشوارع، وكل ربوع المحروسة: «نبيع صنافير وتيران؟ طيب، ودم شهدائنا اللي في سينا؟». قوات الحرس الجمهوري بجلالة قدرها، تضيّق الخناق، في محيط العرض المسرحي. قوات الأمن تعاونها، وتقبض على مجموعة من الناشطين، الذين تظاهروا (أول الغيث) ضد التفريط في السيادة المصرية. رفعوا لافتات ضد الملك سلمان، فكان مصيرهم الاعتقال. العرض مستمر، والطاقم موجود بالكامل. المؤلف والمخرج (عبد الفتاح السيسي)، والبطل الأوحد (سلمان).
العرض الذي شهد إقبالاً غير مسبوق من جوقة المهرجين والمتفرجين (أعضاء مجلس النواب ووفد من كبار المسؤولين السعوديين)، لم يخل من الارتجال. قصائد الشعر والمديح تتهادى بهستيرية: «عاش الملك. بنحبك يا سلمان». أعلام السعودية ترفرف في كل مكان. الملك السعودي مُبتهج، يؤدي دوره القصيرعلى أكمل وجه (يُلقي كلمته بربع ساعة)، فينال تصفيقاً حاداً، لأكثر من 23 مرّة.
الملك سلمان في منتصف العرض يقول: «معالجة قضايا الأمة تتطلب وحدة الصف». رئيس البرلمان، علي عبد العال، الذي يجاوره، يردّ في الحال: «الرياض أصبحت قِبلة». التلفزيون المصري يذيع برنامجاً لترويج السياحة في جزيرة تيران. وزارتا البيئة والتعليم تعلنان أنهما ستحدّثان بيانات الجزيرتين في المناهج والخرائط وعقول الأطفال. وسائل الإعلام المصرية، مجتمعة، تتحاشى رصد حالة الغضب الشعبي تجاه السلطة، بدعوى أن «الإخوان» هم من يقفون وراءها. رؤساء تحرير الصحف المصرية يتهافتون على لقاء وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، والسفير السعودي لدى القاهرة. «لا تقلقوا. العطايا موجودة... أطال الله عمر خادم الحرمين».
الملك المُنتشي يشكر المتفرجين ويوصيهم ضمنياً بإمرار الموضوع البسيط: «يجب أن تتحمل السلطات التنفيذية والتشريعية في البلدين مسؤوليتهما». وضحت المسألة، ووصلت الرسالة يا «جلالة الملك». سلمان يصرّ على رد الجميل للمخرج المصري، يذكر اسم السيسي (عوّاد الذي باع أرضه)، فيقف الوفد السعودي (الأدوار مقروءة ومحفوظة بعناية) احتراماً وإجلالاً، للرئيس الكريم جداً، الذي باع نفسه، وأرضه، وقدمها على مائدة من ذهب لبطل العرض.
العرض المسرحي الرسمي بكل جبروته انتهى بسرعة، لكنّ اليوم طويل. العروض الشعبية المستقلة تتوالى. أوبريت «عوّاد باع أرضه ــ نسخة 2016»، الذي كتب كلماته في زمن الستينيات، مرسي جميل عزيز، ولحنه كمال الطويل، يُبعث من جديد. حقائق التاريخ توجع المصريين؛ بسرعة البرق، تداول الناس، الوثائق التاريخية المصرية، التي تؤكد مصرية الجزيرتين. آخرون يتداولون تسجيلاً صوتياً لجمال عبد الناصر (https://www.youtube.com/watch?v=H_k-3mdnev0)، يقول فيه: «إن مضايق تيران مياه إقليمية مصرية، وتمارس عليها السيادة المصرية، ولن تستطيع أي قوة من القوى مهما بلغ جبروتها، أن تمس حقوق السيادة المصرية أو تدور حولها، وأي محاولة من هذا النوع سوف تكون عدواناً على الشعب المصري».
ثمّة مشاهد تبدو كوميدية، لكنها مأسوية في العروض المستقلة، وتعكس سخرية عميقة للمصريين من السلطة الحالية. دولة عمرها أكثر من ستة آلاف سنة، تبيع ترابها الوطني لقبيلة مجهولة (الدرعية) ودولة عمرها عشر دقائق (السعودية)... «الرئيس السوداني عمر البشير، يعرض على السيسي، التنازل عن حلايب وشلاتين مقابل 40 بقرة حلوب، ومُطيعة. الرئيس التوغولي وصل القاهرة للقاء السيسي، وعينه على أسوان!».
كرة الثلج تتدحرج وتكبر. الغضب الشعبي يجب أن يُترجم إلى أفعال. النخبة المصرية المستقلة، والناشطون السياسيون، والأحزاب المحسوبة على «ثورة يناير»، أعلنت احتجاجها الشديد على التخلي عن السيادة الوطنية، فوق كل المنصات. البيانات تتوالى. مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى أن الرأي العام المصري، حتماً، يتجه إلى التصعيد. الناس يوقعون على عرائض شعبية رافضين بيع الجزيرتين، لتقديمها إلى البرلمان، محامون مصريون متطوعون يستعدون لرفع عشرات الدعاوى على رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، لمخالفتهما الدستور والقانون. المحامي خالد علي، رفع دعوى اليوم بالفعل، أمام مجلس الدولة، والمحامي طارق العوضي، يجمع توكيلات كبيرة، لرفع دعوى مماثلة، بعد غد. هناك شعب جادّ يدرس طرق المواجهة. المعركة مفتوحة، ولا تعويل على برلمان «عاش الملك».