حتى يوم أمس، سُمح للمصريين بزيارة جزيرتي تيران وصنافير وممارسة رياضات الغوص فيها من دون قيود، فالرحلات التي تُنظّم من شرم الشيخ إلى الجزيرتين كانت بأعداد المصريين الطبيعية ولم تشهد أي تغيير. لكنّ المتغير الوحيد كان لدى الجهات الرسمية المختلفة التي عدّلت الخرائط وحذفت الهوية المصرية عن الجزر من المواقع الإلكترونية للحكومة، مع أن الأخيرة لا تزال تحتفظ بسرية الاتفاقية، ولم ترسل إلى مجلس النواب تفاصيلها، فيما كان البرلمان يكمل المسلسل «الهزلي» بقصائد ترحيب بالملك سلمان.
اكتفت القاهرة ببيان ضعيف أوضحت فيه أن «الرسم الفني لخط الحدود (بين السعودية ومصر) أسفر عن وقوع الجزيرتين داخل حدود المملكة»، بل رأت أن «توقيع الاتفاق إنجاز مهم من شأنه تمكين الدولتين من الاستفادة من المنطقة الاقتصادية التي تمتلئ بالثروات والموارد الطبيعية». هذا إذاً ما أسفر عنه «مجلس التنسيق السعودي ــ المصري»، الذي كان يطبخ على نار هادئة لمدة ستة أشهر خططاً صادمة للمصريين. ويبدو أن منسقي الاتفاقات ومذكرات التفاهم أفلحوا بإعلانها رزمة واحدة، ليتلقى المصريون صفعات عدة لا يعرفون على أيّها يعترضون: الجسر البري الذي يمر فوق البحر الأحمر ويهدد معالم الحياة البحرية والبيئة، أم الجزر التي تَبيّن أنها في عقل عبد الفتاح السيسي ومن معه مجرد «وديعة»، تشبه ودائع الأموال التي يتركها الخليجيون كأكياس الرز في البنوك المصرية، مع أن المال لا يقايض بالأرض، إن لم يكن التنازل عن الجزر على وجه التحديد، مجاناً!
الآن، ستكون للسعودية حدود مشتركة جديدة مع إسرائيل، فالجزر التي تخضع للمنطقة (ج) في اتفاقية «كامب ديفيد» وتتضمن قوات شرطة مدنية مصرية وأجهزة مراقبة للملاحة البحرية، لا بد أن تعبر منها السفن التي تتحرك من ميناء «إيلات» ــ أم الرشاش الإسرائيلي، فتصير القوات السعودية أوّل مستقبل للملاحة الإسرائيلية. تقول مصادر سياسية مطلعة إن التنسيق جارٍ على مستوى عال بين مصر وإسرائيل لانتقال سيادة الجزر غير المأهولة والغنية بالشعب المرجانية الخلابة إلى الرياض، مضيفة أن التنسيق سيصير إسرائيلياً ــ سعودياً مع خروج المصريين من المعادلة.
وتطرح الصيغة الجديدة لنقل السيادة على الجزر تساؤلات عدة عن الوضع العسكري فيها: هل ستزيل السعودية لاحقا أجهزة المراقبة التي طلبت إسرائيل إزالتها عام 2006 ورفضت مصر ذلك؟، وما هي أعداد القوات التي ستوضع على الجزر لتأمينها، وخاصة أن هذه النقطة منصوص عليها بوضوح في «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل؟ كذلك سيفرض الواقع الجديد اتفاقاً سعودياً ــ إسرائيلياً على آلية الوجود العسكري في تلك المنطقة الاستراتيجية في البحر الأحمر، وسط أحاديث متضاربة عن بقاء قوات مصرية محدودة هناك بالتوافق مع المملكة، بالإضافة إلى تعزيز أعداد «قوات حفظ السلام في سيناء» (MFO)... وصولاً إلى البحث عن هدف سعودي لمراقبة الملاحة مرتبط بعبور السفن الإيرانية.
من ناحية التقويم العسكري، لم تقابل اتفاقية الجزر بترحيب من القادة العسكريين السابقين، وخاصة الذين شاركوا في حرب تحرير سيناء وما تلاها من محاولات تنمية الأرض التي خضعت للاستثمار. فرئيس الأركان الأسبق (عهد حسني مبارك)، اللواء عبد المنعم سعيد، دعا البرلمان إلى رفض الاتفاقية خلال مناقشتها نيابياً. لكنّ سعيد عندما اتصلت «الأخبار» به أمس، غيّر وجهة نظره، ودعا فقط إلى «مراجعة الاتفاقات الدولية في هذا الأمر والأمور المنظمة للحدود البحرية قبل إبداء أي رأي»، متراجعاً عن الانتقادات الحادة التي وجّهها بصورة غير مباشرة إلى الرئيس.
تصرّف سعيد لم يكن موقفاً فردياً، بل تكرر لدى عدد من اللواءات المتقاعدين، الذين حاولنا التواصل معهم ونصحونا بعدم التعليق على الأمر حتى لا تصير القضية كأنها بداية موقف معارض في الجيش للاتفاقية التي أقرها السيسي، وهو ما التزمه معظمهم، بل بدأ آخرون الدفاع عنها باعتبارها أعادت الجزيرتين إلى أصحابها الأصليين!
سوف تصير القوات السعودية أوّل مستقبل للملاحة الإسرائيلية

في غضون ذلك، سعى مسؤولون سابقون وحاليون إلى إقناع الرأي العام بصحة الاتفاقية وأن الجزر سعودية الأصل، استناداً إلى أنها كانت «وديعة سعودية بموجب اتفاقية بين مؤسس الدولة السعودية الملك عبد العزيز والملك فاروق»، وأنه جرى التأكيد في مخاطبات عدة بين مسؤولي الدولتين على أن هذه الجزر «وديعة»، وهي «مخاطبات رسمية بين وزارتي الخارجية على مدار عقود». وزادوا على القصيد بيتاً بالإشارة إلى أن مستشار الرئيس الأسبق، الراحل أسامة الباز، أقر بأنها جزر سعودية سترد في الوقت الذي ترغب فيه الرياض، كأنّ كذبة كبيرة دأبت الدولة بمؤسساتها على تردادها لأجيال، ثم جاءت لحظة الصدق.
الكلام عينه ردّده وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، خلال لقائه أمس عدداً من رؤساء تحرير الصحف المصرية، مدعياً أنه يملك الوثائق التي تؤكد أن الجزر سعودية، وأن هناك مخاطبات بتوقيع أستاذ القانون والمفاوض المصري مفيد شهاب، تؤكد ذلك؛ وكل ما حدث «تصحيح» للوضع، بعد جلسات عمل ومناقشات ثنائية خلال الأشهر الماضية.
في المقابل، تزداد التحركات الميدانية والغضب الإلكتروني، وترجم واقعاً بصورة جزئية أمس، عبر تظاهرة محدودة نظمها «شباب ضد الملك سلمان» خلال توجه الأخير إلى البرلمان من أجل إلقاء كلمته. لكن الأمن احتجز هؤلاء الشباب حتى المساء، بالتزامن مع دعوات للتظاهر يوم الجمعة المقبل في ميدان التحرير. كما أقام المحامي خالد علي دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري لإلغاء الاتفاقية، وسط مطالبات بتحرك قضائي يلزم الحكومة إجراء استفتاء شعبي حول الاتفاقية التي تتضمن تنازلاً عن أراضٍ مصرية، استناداً إلى نص المادة 151 من الدستور، التي تدعو الناخبين إلى «الاستفتاء على معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة».
وطالب آخرون رئيس مجلس الوزراء، أو وزير العدل، بمخاطبة المحكمة الدستورية العليا، التي يترأسها المستشار عدلي منصور، لتقديم تفسير عاجل عما إذا كان وضع الجزيرتين ينطبق عليهما ما ورد في المادة المشار إليها في الدستور أو لا، على أن يكون مدعوماً بالمستندات والأدلة التي استندت إليها الحكومة في قرارها. كما دعا المعارض البارز حمدين صباحي، إلى سحب الاتفاقية تجنباً لحدوث أزمة بين مصر والسعودية، مؤكداً أنه لا يليق بالأخيرة أن تضع نفسها في موضع «شبهة استغلال حاجة مصر... ولا يليق بمصر أن تقبل على نفسها شبهة الإذعان تحت وطأة الحاجة»، في إشارة إلى الهبات والمشاريع السعودية.