في بيروت، وبعد سنة من الحياة فيها والبحث عما هو مختلف مضمونا، والدخول إلى جدران المدينة المتحدثة لسنوات باسم الثورة الفلسطينية، لم أجد محمود درويش، ولا علي فودة، ولا كمال عدوان، وكمال ناصر، وووو.. أسماء كثيرة لا يتسع لها الورق.
مركز الدراسات الفلسطينية ما زال موجودا، لكنه لم يعد يمثل تلك الذاكرة المبهرة التي جعلت إسرائيل تنفذ عملية كوماندوس باتت شهيرة للقضاء على أرشيفه الغني. المركز الذي كان عنوانا لثورة ، ليست فقط تحررية إنما علمية ايضاً، تحث خطاها على الرمل بمنهجية وفكر يدرس الخطوة..
بيروت التي ليست لنا، وكتبنا عنها حتى بات الشعر الفلسطيني في دواوين منه بيروت، ومثل الشعر الرواية الفلسطينية، وبعض الروايات لكتاب عرب كانوا من مكونات الحراك الثقافي الثوري الفلسطيني. بيروت التي لم تعد تتسع للجميع، ولم تعد تحتمل إلا خلافات وتناقضات رهيبة كانت منذ عقود، لكن التناقضات بات بوسعها أن تكون بادية للعيان. فما كان في بيروت من ثورة وثقافة، كان مغلفا لكل تلك الاوجاع، حتى الحرب بأوجاعها ودمويتها كانت رومانسية بقدر ما.
بيروت هذه التي أحاول الكتابة عنها، بالنسبة إلي، هي سؤال مفتوح، سؤال كبير لم أجد له نهايات، السؤال الذي لم أجد في بيروت نفسها إجابة عنه. بيروت التي قال عنها محمود درويش إنها تفاحة، تفاحة نضرة.. ولكن القلب لم يضحك.
الآن في بيروت، بعد سنوات من "العيش" فيها عبر الورق، ورق صنع الله ابراهيم، رشاد أبو شاور، محمود درويش، الخ.. سنوات كانت فيها بيروت الحلم، والفدائي الفلسطيني الملثم، النظيف من عفن الكذب والمتاجرة بالدم، والعبث بالقضية، بيروت خليل حاوي هي ذاتها بيروت زياد الرحباني ومهدي عامل وكمال جنبلاط. بيروت التي في الكتب كانت جميلة وتشبه الحلم، حلم الثقافة، حلم القيامة الجديدة، لوافد إليها يريد أن يصنع نفسه في عالم الثقافة والكتابة.
بيروت الكتب في الثمانينيات تفرق عن بيروت القرن الحادي والعشرين، بيروت الواقع، الجدار الذي تستند اليه ولا تستند إلا على قلق، المدينة اليوم خلت من الجميع إلا من الوافدين، وبعض مثقفيها القدامى أولئك الذين يعيدون تشكيل الحلم..
بيروت.حكاية الفلسطيني، الثورة التي يراد لها أن تزال بفعل حاضر المقاومة الفلسطينية، دون النظر أن تكون هذه المقاومة ممتدة لتلك الثورة ــ المقاومة من 65 حتى الخروج من بيروت ــ وذلك عبر طمس الماضوية الفلسطينية، واعتبار الحاضر هو كل شيء، وكأن كل ما حصل سابقا هو مجرد خاصرة لحلم.
بيروت التي كانت للفلسطينيين منارة حربهم المشرفة ضد الاحتلال، باتت للبعض اليوم مكانا يتمنون لو أنه ما كان، فقط لأنه يذكر بماضي ثورة فلسطينية قدمت الشهداء والجرحى، مثلما ساهمت بانتاج الفن والأدب، واجتذاب المفكرين والمثقفين من كل المعمورة.