غزة | من أكثر المؤسسات الإنسانية نشاطا في فلسطين «اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، وهي تعمل، كما تقول، خلف مبدأ الحياد المنظّم من أجل تنظيم مهماتها «الإنسانية»، وفي كل أساليب عملها كانت تحرص على أن تبني جداراً نفسياً فاصلاً بين "مقاومي" القطاع بصفتهم عسكريين، أو حتى إرهابيين، وبين المدنيين من جهة أخرى.
في الحرب الأخيرة على غزّة لم يكن دور المنظمة مرضيا عنه في غزة، فهي منذ لحظة "تهربها" من واجبها في مجزرة حي الشجاعية (راجع العدد ٢٣٤٩ ٢١ تموز)، كما أضفت بصمتها غطاء على استهداف العدوّ المنظّم للمدنيين، فيما كانت اجتماعاتها مع راسمي الخطط الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية الإسرائيليين لا تتوقف، وعللت تلك الاجتماعات على قاعدة «حماية الأماكن المدنيّة»!
تلك اللقاءات لم تكن في الغرف المغلقة، بل جرت على العلن وبصيغ استراتيجية، لا آخرها ما عقد في معهد «دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب» الذي يرأسه عاموس يدلين، وهو أحد أشهر مجرمي الحرب، ورئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية الأسبق (الموساد).
ويعالج المؤتمر، الذي من المزمع عقده للمرّة الثالثة في الثاني من كانون الأول، "التحديات العملياتية والقانونية والأخلاقيّة لإشكاليّة القتال وسط الأماكن المزدحمة سكانيّاً"، وبلغة أخرى الارتكاز على إعادة هندسة المنظومة البنيوية المجتمعية للفلسطينيين وكيّ وعيهم.
وتنطوي هذه الإستراتيجيات على انخراط للصليب الأحمر في عملية إفلات العدو من العقاب على جرائمه، إضافةً إلى تحسين وضعيته القانونية أمام المجتمع الدولي، وذلك بعدما يستثمر هذا الأخير مخرجات استشارات وانتقادات المنظمة القانونية في قوننة التدخلات العسكرية التي تتشكّل وفقاً لطبيعة الفئة المستهدفة.
هذا المؤتمر ينظّم برنامج «الشؤون العسكرية والاستراتيجية» الذي يديره الجنرال في الاحتياط غابي سيبوني، وكان قد شغل منصب رئيس قسم التخطيط في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، وذلك بالتعاون مع «تلصليب الأحمر» ممثّلة برئيس بعثتها في فلسطين المحتلّة جاك دي مايو. وسيستعرض أهم التحديات العملياتية العسكرية والقانونية والأخلاقيّة المرتبطة بـ«تعزيز حماية المدنيين وتقليل الخسائر البشرية في صفوفهم»، فضلا على الوقوف على التحديات الإعلاميّة في الشأن عينه، وهذا البند ستشرحه ميري إيسين (محلّلة عسكرية وناطقة سابقة باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت)، إضافةً إلى عضو لجنة الدفاع والشؤون الخارجية، وإيتاي أنجل المراسل العسكري للقناة العبرية الثانية.
تشارك "الصليب الأحمر" في الاجتماعات الدورية لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي


استفاد العدو من توصيات "الصليب" لإضفاء شرعية على استهداف المدنيين بتنويع طرق التحذير

على الصعيد القانوني، سيتحرّك المؤتمر وفقاً لمسارين، أحدهما من وجهة نظر "الصليب الأحمر"، والأخرى من وجهة نظر جيش العدوّ الذي سيمثله هنا المحامي العام العسكري الإسرائيلي اللواء داني إفروني.
أما من الناحية العملياتية، فسيستعرض عدد من الجنرالات الإسرئيليين والأميركيين والبريطانيين تجاربهم القتالية في المناطق المكتظّة سكانياً، ومن أبرزهم قائد المنطقة الجنوبية سابقاً اللواء تل روسو، والقائد السابق للقوات الجويّة الأميركية الجنرال كريج فرانكلين، إضافةً إلى القائد السابق للقوات البريطانية في أفغانستان الكولونيل ريتشارد كمب، والأخير كان قد أدلى بشهادته لمجلس حقوق الإنسان عن «أخلاقية» جيش العدو في رسمه خطّاً فاصلاً في الاستهداف بين مدنيي وعسكريي غزّة.
الشهادة كفيلة بمعرفة النتائج والتوصيات التي سيتمخّض عنها المؤتمر المقبل والمشرعنة لمزيد من القتل بحقّ الفلسطينيين، فكمب قال سابقاً، إن «الجيش الإسرائيلي فعل الكثير للحفاظ على حقوق المدنيين في مناطق القتال أكثر من أي جيش آخر في تاريخ الحروب، وربما ستتوقّف إسرائيل على المثول أمام العدالة كمنتهكة لقوانين الحرب». وأضاف: «سقوط الضحايا المدنيين جاء نتيجةً لطريقة حماس في القتال، التي تضمّنت استخدام الدروع البشرية كسياسة، إذ تعمّدت التضحية بأرواح مدنييها، فضلا أن الجيش الإسرائيلي اتخذ إجراءات خارقة للعادة كإخبار مدنيي غزّة عن المناطق المستهدفة، وإلغاء عدد من العمليات المؤثرة منعاً لوقوع الإصابات والقتلى في صفوفهم، إضافةً إلى تقديمه كميات ضخمة من المعونات الإنسانية إلى غزّة أثناء القتال».
تتقاطع هذه التصريحات مع جملة التساؤلات التي طرحها العسكريون الإسرائيليون في المؤتمرين السابقين، وتمحورت حول كيفيّة التمييز بين «المجموعات الفلسطينية المسلّحة» والمدنيين في الشوارع، وخصوصاً أن عدداً من المسلّحين لا يرتدي بزاته العسكرية، إضافةً إلى كيفية مكافحة سياسية الدروع البشرية التي تنتهجها «حماس»، كما يدعون.
مقابل ذلك، أطلق عدد من الناشطين الفلسطينيين، اخيراً، عريضة تطالب «الصليب الأحمر» بإلغاء هذا المؤتمر الدوري المشترك ومحاسبة مسؤوليها عن تنسيق وتمويل المؤتمرين السابقين، وقالوا إن المشاركة «توفر الغطاء الشرعي والقانوني للسياسات الإجرامية التي يعطيها المعهد في توصياته ويطبّقها لاحقاً عل الأرض بقتل الفلسطينيين».
كذلك، يبدو جليّاً أن المؤتمرين السابقين للصليب الأحمر ومعهد «دراسات الأمن القومي الإسرائيلي»، اللذين نظّما عامي 2011 و2013، استحالت نتائجهما واقعاً في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع. يمكن الاستدلال على ذلك، بما حدث في حي الشجاعية شرقي مدينة غزّة، إذ وازنت المنظمة شكلاً بين الضرورات العسكرية والاعتبارات الإنسانية، فاعتباراتها لم تتجسّد في «مساعدة المدنيين على عبور خطوط المواجهة أو تزويدهم عبر الحدود بالمواد الضرورية لضمان بقائهم على قيد الحياة»، بل في اللعب على الوتر السيكولوجي للمدنيين، الذي لا تندرج أساليبه مهما تفوقت آثارها على القتل وسفك الدماء، ضمن انتهاكات القانون الدولي.
في تلك الأيام، اختزلت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» مهماتها في تمرير رسائل تحذيرية لسكان المناطق الحدودية والأحياء الأخرى ذات الكثافة السكانيّة العالية بهدف إخلاء منازلهم، وذلك بعدما تلقّت إشارات من العدوّ عن نيته شن عملية عسكرية واسعة ضد تلك المناطق لتدمير شبكة الأنفاق الأرضية وتقويض عمل المقاومين، كما بنت المنظمة استراتيجية خاصة بالمدنيين استفاد منها العدو تسير وفقاً لتقنيات معنية وخط زمني محدّد، وفعلا أتقن التعامل النفسي «الناعم» مع المدنيين عبر إلقاء المناشير والصواريخ الإرشادية وإجراء الاتصالات الداعية إلى إخلاء منازلهم «حفاظاً على أرواحهم».
بعد ذلك، جاء تذرع "الصليب الأحمر" بإعلان الاحتلال حي الشجاعية منطقةً عسكرية مغلقة فرضتها «الضرورات العسكرية الملّحة»، للتنصّل من دماء سكان الحي الذين ظلّوا ينزفون حتى الموت، بعدما تجاهلت اتصالات بعضهم وأغلقت الهواتف في وجه آخرين.
الأمر نفسه ينسحب على بلدة خزاعة شرقي خان يونس (جنوبي القطاع)، حيث أوعزت المنظّمة للسكان بالسير نحو مدخل البلدة لإجلائهم، وسط طمأنتها إياهم بأنها نسقت مسبقا مع الاحتلال، لكن النيران الإسرائيلية الكثيفة باغتت الهاربين من أنياب الموت، فيما أطقم المنظّمة لم تكن في الانتظار أصلاً عند المدخل، وفق إفادات الشهود والصحافيين.
في المحصلة، يبرز التناقض بين السياسة المتماهية مع العدو وتصريحات رئيس منظمة الصليب الأحمر، بتير ماورير، أثناء جولة تفقدية نفذها في قطاع غزّة ومناطق غلافه، أوائل الشهر الحالي، وقال آنذاك: «بعدما شاهدت الدمار الهائل الذي خلّفته العمليات القتالية وقابلت ضحاياها، أؤكد أن التوازن بين الواجبات العسكرية والمبادئ الإنسانية لم يحترم، ما أوقع خسائر بشرية غير مقبولة في صفوف المدنيين»، كما لم ينس أن يؤكد أن «على أطراف النزاع لتزام القانون التزاماً مطلقاً»!.




معهد دراسات الأمن القومي

تأسّس معهد دراسات الأمن القومي عام 1977 كخط دفاعيّ أول عن دولة الاحتلال في شؤونها الأمنيّة القومية، لذلك يعد راسماً لأهم السياسات والاستراتيجيات المتعلّقة بتلك الشؤون على صعيد الجبهة الداخلية والمخاطر الخارجية. ويقدّم المعهد تحليلاته السياسية واستشاراته وتوصياته لصانعي القرار، حتى يبلوروا بناءً عليها جميع قراراتهم المصيرية.
يعرّف المعهد نفسه على موقعه الإلكتروني بأنه يمثّل «الأرضيّة الحيادية مع القوى المختلفة من مؤسسات الدفاع بالدولة». وتديره مجموعةٌ من الباحثين والمخططين الإستراتيجيين، علماً بأن غالبية هؤلاء المخططين شغلوا مناصب مهمة في جيش الاحتلال.
يصدر المعهد الذي يوصف بأنه «خزان التفكير» لصانعي القرار دراساته وأبحاثه دوريا، ومهمته البحث في القضايا الحساسة التي تمسّ الأمن القومي الإسرائيلي وتصديرها إلى الرأي العام. كما يعقد دورياً حلقات نقاش وجلسات عصف ذهني ومنتديات لتحليل وتقويم التطورات العاصفة في المجال الأمني الإسرائيلي.
أما رئيسه، عاموس يدلين، فهو لواء في الاحتياط بعدما عمل 40 عاماً في جيش الاحتلال، كما شغل منصب رئيس شعبة الاستخبارات في السنوات ما بين 2006- 2010. عند تركه الجيش، انضم إلى «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» كباحث كبير في مجال الأمن القومي عن دولة الاحتلال، ثم انتقل إلى إدارة معهد «دراسات الأمن القومي الإسرائيلي ـ جامعة تل أبيب». ويدلين من المطلوبين للعدالة الدولية، لارتكابه جرائم حرب في غزّة، إضافةً إلى هجوم سفينة «مرمرة» التركية.

(الأخبار)