ما عادت الأمور في العراق كسابق عهدها. الدولة التي كانت على مدى الأعوام الثمانية الأخيرة شديدة المركزية، تحولت إلى فدرالية مسلحة تخوض أطيافها كلها قتالاً مريراً ضد تنظيمات، بعضها إرهابي، فيما البعض الآخر من نسيج المجتمع العراقي لا يزال يأمل أن يستعيد ما يعدّه امتيازات يرى أنه فقدها مع سقوط صدام حسين.
حتى الدولة نفسها، التي تبجّح الأميركيون بإعادة بنائها على أسس حديثة، تبين بين ليلة وضحاها أنها دولة فاشلة، مؤسساتها منهارة، وخاصة العسكرية منها. والأخطر في تلك الأخيرة، ولا سيما الجيش، ما ظهر لجهة غياب العقيدة، وحقيقة وجود مئات الآلاف من الجنود لا يجمعهم سوى راتب آخر الشهر. أما الوضع الاقتصادي فكارثي. الموازنة العامة التي تبلغ نحو 145 مليار دولار، تعاني عجزاً يقارب 65 ملياراً. مشاريع الانماء والاعمار متوقفة. كلها أزمات خرجت الى السطح دفعة واحدة، بعد انهيار الجيش في الموصل، ثم سقوط أكثر من ثلث العراق في أيدي «داعش» وحلفائه.
الكل يحمّل الرئيس السابق للحكومة نوري المالكي الجزء الاكبر من المسؤولية، على خلفية اتهامه بالتفرد في السلطة والتساهل مع الفساد والإفساد. أراد، كما تتهمه الصحف الغربية، أن يتحول إلى صدام جديد، ورأى أن خوض معركة مواجهة الفساد ستدخله في مواجهات جانبية تبعده عن المواجهة الأساسية التي رآها في النزعة الانفصالية الكردية ومحاولات التغلغل السعودي التركي.
الدولة التي
تبجح الأميركيون
بإعادة بنائها تبين
أنها فاشلة

لكن التمعّن في تداعيات ما حصل، يكشف أن إقصاء المالكي كان بسبب مواقفه لا بسبب أخطائه. فهو واجه الولايات المتحدة في مسألة الاتفاقية الأمنية التي كانت تريدها قبل انسحابها عام 2001. ورفض الاعتراف بـ«الثورة السورية» وتمسّك بشرعية الرئيس بشار الأسد. عزز التحالف مع إيران الذي كاد يحوّل بلاد الرافدين الى حلقة مفصلية من المحور الذي يبدأ في طهران ويمر بدمشق وبيروت وصولاً إلى غزة. ثم إن المالكي خاض مواجهة شرسة ضد ما عدّها «أطماعاً» كردية تستهدف تعزيز كيان يدرك الكل أنه قاعدة عسكرية أميركية متقدمة وبؤرة أمنية للموساد الإسرائيلي. وهو واصل عملية منع الأتراك أو السعودية من بناء منطقة نفوذ ما بين النهرين.
ما يجري هذه الأيام يكشف عن ذلك بوضوح. الأميركيون عادوا، ولو جواً في المرحلة الأولى. إدخالهم مروحيات «الأباتشي» القتالية، إلى جانب الطائرات النفاثة، مؤشر إلى أنهم يقتربون من النزول إلى الأرض. سقوط غربي العراق بأيدي «داعش»، الذي أكد نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن أخيراً أنه حظي بدعم ضخم من السعودية والإمارات وتركيا، إنما أزال الحدود الفاصلة بين سوريا والعراق، وأوجد سداً ضخماً قطع مدى النفوذ الإيراني نحو البحر الأبيض المتوسط، براً على الأقل. حتى السعودية وتركيا عادتا الى موقع اللاعب الأساسي في المعادلة العراقية، سواء من خلال سيطرة المجموعات المسلحة الحليفة لهما على غربي البلاد، أو عبر دورهما كجزء من التحالف الدولي المزعوم للقضاء على «داعش».
إدخال الاميركيين مروحيات «آباتشي»
مؤشر على اقترابهم
من الميدان

ما حصل في تركيبة الحكومة العراقية ليس بعيداً عن كل ما تقدم. أيام الحكومة السابقة، كان رئيسها قائداً لحراكها، بينما كان الوزراء أشبه بأعضاء جهاز سكرتاريا يتبع له. أما اليوم، فقد انقلبت الأدوار. بات الوزراء، أو بالأحرى رؤساء الكتل التي ينتمون اليها، هم من يقودون الحكومة، فيما تحول رئيسها الى سكرتير يدير أعمال الجلسات، ويقاتل من أجل أن يحظى بنفوذ خاص له أو لأنصاره. ومع ذلك، عجز عن تحقيق مطلبه حتى في وزارة السياحة!
لكن الأهم، هو ملف إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية. صحيح أن منصب القائد العام للقوات المسلحة، الذي يتولاه رئيس الوزراء، منصوص عليه في الدستور ولا يمكن التلاعب به إلا بتعديل دستوري، لكن ما يجري اليوم هو صراع، علامته البارزة هي محاولة التحايل على هذا النص عبر إنشاء ما يعرف بالقيادة العامة للقوات المسلحة من أجل إخراج «أمر العمليات» من يد رئيس الوزراء، فضلاً عن استبدال تشكيلات «العمليات» القائمة حالياً، التي تتوزع جغرافياً، بـ»الفيالق».
بات واضحاً أن اليد الطولى في العراق اليوم للمجلس الأعلى بزعامة السيد عمار الحكيم، الذي نجح في تحقيق هدفه بإخراج المالكي من السلطة، وهو يأمل إزالة التشنج من المناخات العامة. وللمجلس وجهة نظره التي ستختبر جدواها خلال الأشهر المقبلة، لناحية معالجة مشكلات القوى الشيعية السياسية مع الأكراد والسنّة. يعتقد «المجلس» أن الأكراد لا يريدون كل ما يطالبون به، بل إنهم يرفعون سقف المطالب لانتزاع الحد الأدنى منها. واقع تعزز بعدما كشفت تركيا عن نياتها الحقيقية في تمنعها عن المشاركة في التحالف الدولي. صحيح أن الحصول على تعهد أميركي بإسقاط الأسد كان أحد شروطها، لكن موقفها الصارم من أي زيادة في النفوذ الكردي كان شرطها الأول. لكن تغييرات ميدانية جوهرية أفقدت بغداد عنصر قوة مركزي، أهمها أن كركوك المدينة النفطية باتت تحت سيطرة مسعود البرزاني الذي بات يدرك أنه لن يستطيع أن يواجه عداوات البعض للأكراد من خارج كنف الدولة المركزية.
أما في ما يتعلق بالسنّة، فيرى «المجلس» أن كثيراً من مطالبهم محقّة وبسيطة يمكن تلبيتها من دون الإضرار بمصالح وامتيازات الأطياف الأخرى، وبما يجعلهم شركاء في الحكم، كما هي الحال اليوم، التي تحظى برضى المرجعية في النجف ودعمها. الدور الذي أداه أسامة النجيفي، على المستوى السياسي والميداني، ومعه الكثير من قادة العشائر، يشار إليه على أنه دليل على صدقية هذا التقدير.




«الحشد الشعبي» و «الحرس الوطني»

لعل الخلاف حول الحرس الوطني المنوي تشكيله هو الأكثر حدة على المستوى الميداني اليوم. فتوى «الجهاد الكفائي» للمرجع السيد علي السيستاني أدت الى قيام قوات الحشد الشعبي، التي نجحت في تأمين المناطق الشيعية والمراقد المقدسة مع حزام أمني يكفي لعدم تعرضها لأي اختراق.
ويفترض، بحسب ما هو مخطط، أن يتشكل «حرس وطني»، يكون عملياً جيشاً عقائدياً رديفاً، من نواة صلبة من حوالى 50 ألفاً من قوات الحشد الشعبي المؤلفة على نحو أساسي من عناصر من منظمة بدر والمجلس الأعلى والتيار الصدري. لكن الخلاف على قيادة «الحرس» دفعت بالبعض إلى المطالبة بأن تكون قوات محافظات، في خطوة رآها البعض الآخر، وفي مقدمهم نوري المالكي، وصفة مثالية لتقسيم العراق.
وتبقى المخاوف من التفجيرات التي لم تتوقف يوماً في بغداد، ومن خلايا نائمة في المناطق المختلطة، يؤكد معنيون أن حراكها سيكون بلا جدوى بلا إسناد يأتي على شكل اجتياح من خارج المنطقة.