حلب | ثلاث سنوات من الحرب كانت كفيلة بتدمير أسواق مدينة حلب "العاصمة الاقتصاديّة لسوريّا" ويعتبر شارع "التلل" الوحيد من شوارعها القديمة الذي لا تزال الحياة تسري فيه، بانتظار انتهاء الكابوس الأسوأ في تاريخ المدينة، على الرغم من أنّ السّوق استمدّ اسمه "التلل" لأنه أقيم على تلال أنقاض مدينة حلب التي دمّرها زلزال هائل قبل قرنين من الزمن.
السوق الذي يعتبر الجزء الأخير من المدينة القديمة يقع اليوم على مسافة 300 متر فقط من سلسلة مدافع (جهنم، جحيم، وعمر بن الخطاب) ومدافع الهاون بطبيعة الحال، الأمر الذي يجعله في مرمى النيران ساعة يشاء "الثائر"، المختبئ في سراديب البيوت العربية القديمة، إشغال المدافعين عن السوق بإخلاء الجرحى والجثث، لكي يتسلّل إلى المنطقة. رصاص القنّاصة يطال بداية السوق جنوباً، من جادة الخندق، حيث لا متاجر، حتى مفرق ساحة فرحات حيث تتجاور عدة كنائس باتت تشكو من رحيل جيرانها، ومتاجر الأنتيكات والمشغولات التراثية التي كانت قبلة السياح الأجانب. أمّا الأزقة المتفرعة عن السوق فتحميها "الشوادر" من رصاص القناصة، الذين يعتلون أسطح الأبنية العربية باتجاه الماوردي، وباب النصر، وقسطل المشط.
متاجر سوق التلل الكبرى أوصدت أبوابها، والازدحام الشديد الذي ميّزه انتهى، وبات بإمكان السيارات أن تمضي فيه بانسيابيّة. فيما مقاتلو "اللجان الشعبيّة" يتوزّعون على مفارقه الشرقيّة مستعدين لأيّ طارئ.
السّوق فقد أهميّته، ومعظم تجّاره يفتحون متاجرهم لكسر الملل، والحفاظ عليه فقط

وسط كلّ ذلك، لم تتوقّف متاجر الألبسة النسائيّة الدّاخليّة "اللانجري" عن عرض أحدث بضاعتها، وتقف أمامها "المانيكانات" جامدة، غير آبهة بقرب المسلّحين الملتحين، غلاظ القلوب، منها. فيما اختفت الواجهات الزجاجيّة للمتاجر، بعدما يئس أصحابها من تجديدها عقب كلّ قذيفة تسقط في الشارع.
يقول فراس نويلاتي (شريك في متجر للألبسة): "لم نعد نفتح متاجرنا من أجل الربح، ولا حتى لقوت يومنا. بل لمجرد عادتنا كتجار. لا يدخل متاجرنا طيلة اليوم، عشية العيد، من الزبائن ما يزيد على ربع ما كنّا نستقبله في ربع ساعة قبل ثلاث سنوات". أمّا شريكه "أحمد" فيعتبر: "أنّ السّوق فقد أهميّته، ومعظم تجّاره يفتحون متاجرهم لكسر الملل، والحفاظ عليه فقط".
في سوق التلل، تجد كلّ ما تحتاج إليه الأسرة. المحال الفاخرة تجاور بسطات الرصيف، وبسطات الملابس تجاور بسطات الخضر والفواكه والمعجنات، الأحذية والألبسة، الأكسسوارات ومواد التجميل والمنظفات. إلّا أنّ السوق اليوم يعتمد على بضائع، وموديلات السنوات السابقة، فأسعار المنتوجات الحديثة مرتبطة بسعر الدولار، ما يجعل الأمر مرهقاً لغالبية السكان ويفوق قدرتهم الشرائيّة. يعقّب "أحمد": "نصف بضاعتنا اليوم هي مدوّرات من عامي (2011 ـ 2012 ) وهي بضاعة مربحة، لأنها مخزّنة وموديلاتها (باطلة)".
أصوات الباعة، التي لطالما ميّزت السوق، اختفت اليوم. ربّما بسبب الرّوح المكسورة التي جعلت "أبو حميد" يعنّف صبيّاً يقف أمام متجره منادياً على بضاعته، فيخرق بصوته الحاد هدوء السوق، ما يثير غضب جاره لينادي عليه متدخّلاً: "اتركه يا رجل، هذه أيّام (جبر)" ووفق العرف الحلبيّ يقال لأيّام العيد (أيام الجبر) والمقصود بها جبر الخواطر، وإسعاد الفقراء. وهي عبارة يردّدها الباعة أمام زبائنهم للكفّ عن المساومة، ومحاولات تخفيض الأسعار. غير بعيدة عنهم، كانت صفاء "موظّفة" تشتكي أنّها صرفت راتبها كاملاً لتتمكّن من شراء ملابس جديدة لبناتها الأربع "بالكاد استطعت أن ألبسهنّ للمرّة الأولى منذ ثلاث سنوات. الأسعار تضاعفت بشكل جنوني، بينما بقيت رواتبنا ثابتة".
الشكوى والتذمر عاملان مشتركان بين المواطنين والتجّار على السّواء، وكلّ تحامل على المسلّحين و"الثورة" يأتي مترافقاً مع مطالبة الحكومة بزيادة الرواتب، وتخفيض الأسعار.
حلب التي عرفت على الدّوام بأنها "خزّان سوريا الاقتصادي"، والتي استطاعت أن تنأى بنفسها عن الأحداث السوريّة قرابة عام ونصف، هي اليوم مدينة منكوبة، نهبت أسواقها القديمة، وأحرقت، وتحوّلت إلى ميادين قتال. ولكّن من المعروف أنّه خلف كلّ متجر صغير، في تلك الأسواق العريقة، هناك مخازن متوزّعة في أماكن أخرى من المدينة وضواحيها. فخلال شهور، قبيل الاجتياح، انتقلت عشرات آلاف الأطنان من السلع إلى مستودعات في الأحياء الغربيّة، وبات لكلّ حيّ سوقه، حتّى تحوّل حي الفرقان (أحد الأحياء السكنية الراقية) إلى سوق شعبيّ يضاهي سوق "سيف الدولة"، وبات المتجوّل في (حلب الجديدة - جنوبي) يخال نفسه في أسواق طريق الباب الشعبيّة.