لطالما رأيت جدي يطيل النظر في الأشياء، لربما كان ذلك بسبب أنه عمل لفترةٍ طويلة في نقل الأشياء، كان يقيس في عقله وزنها، أو حجمها، أو حتى طريقة تخزينها، كان عقله يعمل باستمرار على حل تلك "المعضلات". تلك المهمّة ولا أقول الوظيفة كانت جزءاً لا يتجزأ منه، كان جدّي "حيدر" شخصاً يعمل كل الوقت، هو أورثني تلك الصفة، كان يعمل 24 على 24 ساعة في النهار، لا يهدأ ولو لثانيةٍ واحدة، حتى ولو لم يكن ينقل شيئاً كان عقله يفكّر في ما سينقل أو كيف سينقله. ماذا كان جدّي ينقل؟ وإلى أين؟ تلك هي الأسئلة التي كانت سراً من أسرار العائلة الصغيرة آنذاك –الكبيرة حالياً. كان جدّي -ووحدهم قلّةٌ كانوا يعلمون وقتها- ينقل بعض الأسلحة إلى الداخل الفلسطيني، فلسطين المحتلة. عرف جدّي فلسطين صغيراً، وخبرها شاباً، بات يعرف كل طرقات الوصول إليها سريعاً عبر الحدود اللبنانية، ذلك أنّه كان يعمل في التجارة مع جدّه ووالده من قبل.
لطالما كانت الطريق إلى الحدود أمراً منهكاً لمن لا يعرفها، لكن جدّي كان يعرف الطريق ككف يده. ماذا كان يفعل ليتجّنب دوريات الحدود؟ ذلك سؤال لطالما أنهكنا جميعاً، كيف استطاع أن يتجنّب كل تلك الدوريات القاتلة التي تتوزع على جنبات الطريق؟ كيف يمكن ذلك لشخصٍ واحد يحمل أغراضاً كثيرة، على ظهور بغالٍ وحمير أحضرها معه كي تؤدي تلك المهمّة الشاقة؟ كان الأمر بسيطا بالنسبة لجدي: فهم يتركون أثناء مرورهم أثراً على الطريق، مهما كان شكل هذا الطريق. إذا كان عشبياً، انثنى العشب وانكسر تحت دعسات سياراتهم، فمن طبيعة العشب ومدى قدمه يستطيع أن يحدد متى كان مرورهم. فإذا كان قديماً جدا، فهذا يعني أن موعد عودتهم بات قريباً. ساعتها ينتظر مجيئهم ورحيلهم، ويمضي بعدها بسلام. أما اذا كان العشب غير مطروق فساعتها يفهم أنَّهم لم يمروا بعد، وينتظر كذلك موعد مرورهم ورحيلهم بسلامٍ أيضاً. وماذا عن الطرق المعبدة؟ ذلك كان له أمر مختلف. الأرض المعبّدة تنقل الصوت أسرع بكثيرٍ من غيرها، كان يمكن سماع صوت سياراتهم بمجرد أن تضع رأسك على الزفت. كان ذلك سر الرجل الصلب ذي الكلام القليل والبديهة الحاضرة.
مرةً كان ينقل كثيراً من الأشياء: طعام، سلاح، ذهب، وأشياء أخرى لا أحد يعرف ما هي لأنها في صناديق مغلقة. فاجأته دوريةٌ مسرعة، كان يبدو أن الدورية تهرب من شيءٍ ما، وظهرت أمامه فجأة. اضطر وقتها الى أن ينظر إلى الأشياء أمامه، كان لديه دقائق ليتخلّص من حمولته ويخفيها ويختفي من أمام الدورية العدوّة. ضرب الحيوانات كي تركض مبتعدةً باتجاه الجبل، وركض هو الآخر في الاتجاه المعاكس. هربت السيارة العدوّة مسرعة ولم تعوّل عليه. بينما هو انتظر قليلاً كي يعود ليجمع أغراضه وحيواناته لاكمال طريقه. خرج من مكمنه وإذا به يرى أمامه ثلاثة رجالٍ يحملون بنادق من نوع البورسعيد، وينظرون إليه. حدثهم حيدر قليلاً، وفهم أنهم مقاومون، وكانت المفاجأة أنَّه يحمل إليهم –هم أنفسهم- أغراضاً من عوائلهم وأهلهم. سلّم جدي الأغراض لأولئك الرجال الذين استعجلوا الرحيل لأن المنطقة كانت ستتحول إلى خط نارٍ بعد العملية على دورية الاحتلال.
اليوم، لا يزال جدّي يطيل النظر إلى الأشياء، يقيسها من جديد، لا أحد يعرف عماذا يريد التحدّث فهو لا يتحدّث كثيراً، يقول بعض الأشياء، أو يروي بعض القصص من ماضٍ بات بعيداً، لكن أهم ما فيه أنّه ببساطة: تاريخُ حيدر الفلسطيني.