لا يحتاج الفلسطيني عند أبواب المطارات، إلى من يذكّره بأنه لاجئ. لا يحتاج إلى أن يقول لبوابة المغادرة فيه: «إني عائد». هو يحتاج فقط إلى من يلاقيه بابتسامة، «أهلاً وسهلاً»، تلك الابتسامة هي شهادة رضى من الآخر، تفيد بأن الفلسطيني إنسان، حتى لو كان مجبراً على حمل لقب «لاجئ».
لكن لا ابتسامة تلاقي الفلسطيني عند الحدود، وما عاد هو يرتجي شيئاً من المطارات على اختلاف جنسياتها. في البحر هو، عبر قوارب الموت، يعبر إلى بلاد لا تنطق بلسانه. هناك يحلم بأن تنتظره إنسانيته على الضفة الأخرى، وهو يشتري ذلك حتى باحتمال الموت، يشتري احتمال هذا اللقاء مقامراً بروحه. وفي كل مرة تتغير تفاصيل الحكاية وتتعدد، لكن هاجس اللقاء يبقى ذاته: صديق يكتب لصديقه: «أريدك أن تقرضني خمسمئة دولار لأعبر اليها، فإن بلغت الضفة الأخرى، أعدها لك، وإن لم أبلغها، فهي ستكون لي منك، بدل باقة ورد ترميها صوب قبري البحري».
ومن التيه ذاته يكتب حبيب لحبيبته: «لم أتعلم السباحة، لكنني أجيد لعبة الأمل، فاخترت البر ووحشة الغابات لأصل إليك، حيث تنتظرني حياتي، لأنتظرك وحياتي هناك».
يقول الحبيب: «في وحشة الغابة لم أخف، فكل ما يفترض أن أخشاه فيها، ألفته خارجها، وحده همس صوتك كان ينقصني».
ومن وسط التيه ذاته، كان ثمة من يعتذر: «لم أستطع العبور إليها، فما بقي من عمري لا يغري البحر ليأخذه، لكن جسدي المثقوب بالانتظار سينتظركم، لنعود».
ووسط التيه أيضاً... لاجئ لا يجد بحراً ليركبه، فيجثم على باب المخيم ينتظر رحيل المتقاتلين ليعود، وخلف باب المخيم، ما بين قذيفتين، لاجئ ثانٍ ناداه البحرُ ليركبه، فنادى البحرَ: يا بحر باقٍ ههنا، فأقصر مسافة بيني وبين فلسطين تمر من المخيم.
تتعدد الحكايات... وفي كل مرة يبقى الفلسطيني لاجئاً، هذا اللقب له حتى لو سقط من جواز سفره، أو ظل جاثماً على صدر وثيقته، فما من بلد يسقط عن الفلسطيني صفة اللجوء إلا فلسطين.
وهذا المخيم له، يسكن فيه أو يحمله معه في غربته.
لا عنوان لفلسطيني سواه خارج فلسطين.
لا يسقط اللقب «لاجئ» عن صاحبه الفلسطيني حتى يسقط بيده عمود الخيمة. هو لن ينسى مرارة اللقب قبل أن ينسى الالتفات لوتد رخو يشد حبالها إذا ما هبت ريح عتية، وهو سيبقى أسير ذاكرته ما دام الشتاء لا يعني له إلا إنذاراً بالبلل والطين المحتمل، وإلا فما معنى أن يقيم فوق الخيمة بناءً طابقياً من إسمنت وحديد، ويبقى اللقب اللاجئ لقبه...؟!
لا يسقط اللقب «لاجئ» عن صاحبه الفلسطيني، ما دام اسمه في المخيم تتداوله ذكريات الأصدقاء وحارات المخيم وحكاياته، وما دمنا نغادر المخيم كمن يعبر إلى بلاد أخرى، وبعيداً عنه نعد أضلاعنا... كأنها أمانة أودعوها عند المخيم، سنعيدها له، ليعيدها هو للوطن بعد حين.
لا يسقط اللقب «لاجئ» عن صاحبه... ما دامت فلسطين للفلسطيني، ليست جغرافيا ولا تاريخاً ولا عنواناً ولا شهادة ميلاد ولا حتى موضع قبر.
لا يسقط اللقب «لاجئ» عنا حتى لو خلعنا عن أجسادنا معطف المخيم، وارتدينا «برنيطة» الغرب، وابتسمنا لـ«سيلفي» يقبض على برج إيفل أو حسناوات الشانزلزيه.
ولا يسقط اللقب عنا حتى لو لفنا ضباب لندن وضبطنا ساعاتنا على عقارب «بيغ بن»، ولو غمرتنا ثلوج ألمانيا وتسلسل بردها إلى صدورنا بالسعال والحمى لن يسقط، ولا يسقط اللقب عنا حتى لو بحت أصواتنا في مدرجات ملعب «سان سيرو»، ونحن نهتف لفريق نادي إنتر ميلان الإيطالي، لا لفريق النادي العربي الفلسطيني في المخيم وهو يدخل في مرمى خصمه هدفاً.
ولن يسقط اللقب «لاجئ» عنا، فثمة من حفر ملامح اللجوء في وجوهنا كالوشم، ووسم أجسادنا بآثار المخيم، لا يغير ذلك فينا بلدٌ أو ولد... فأسقطوا عنا منابركم واتركوا ختم الدخول يغفو على أوراق وثائقنا لندخل بلادكم كما البشر آمنين، لا شيء في بلادكم يغيرنا، ولا شيء في بلادكم تخشون عليه منا.
نحن أشجار لا تمتد جذورها إلا قريباً من سطح تراب الغربة، ولن تعرف جذورها عمقاً لها إلا في تراب فلسطين، فدعوا عنا معاولكم... فنحن سنبقى لاجئين... وبعد قليل سنعود.