الموصل | أخيراً، فتحت أبواب البنوك المنيعة في الموصل، التي أُوصدت بعد 10 حزيران الماضي، إثر سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على المدينة وفرضه حراسة مشددة على المؤسسات العامة، ولا سيما المصارف منها. التنظيم يتصرف على أنه دولة، أو يتوهم ذلك، فقد أعلنت إذاعة «البيان» الناطقة باسمه، إعادة فتح فروع المصارف القائمة في المدينة، لإفساح المجال أمام أصحاب الحسابات الجارية لسحب أرصدتهم المودعة فيها.

الموصل التي تضم 1،7 مليون نسمة، لها ثقل اقتصادي كبير، وفيها 12 فرعاً مصرفياً حكومياً، أهمها فرع البنك المركزي العراقي، فضلاً عن مجموعة المصارف الاستثمارية الخاصة. وقُدرت الأموال المودعة فيها بنصف مليار دولار، ما جعل «الدولة» أغنى الجماعات الإرهابية في العالم، بحسب وسائل إعلام عالمية.
كثيرون هم الذين تابعوا الخبر باهتمام بالغ، ومنهم المقاول يوسف محجوب، الذي تهلل وجهه فرحاً هو وعائلته التي تعيش ضائقة مالية منذ شهرين. وفي اليوم التالي، استيقظ باكراً ليتوجه إلى وسط المدينة حيث فرع (112) ـ مصرف الرشيد، أملاً في قبض عشرات ملايين الدنانير من رصيده ليسدد ما عليه من ديون بسبب عمله في مشاريع استثمارية.

تقتطع «الدولة»
نسبة 10 % من المبالغ التي تُسحب من البنوك


عندما وصل محجوب إلى المصرف، وجد ازدحاماً شديداً وتدافعاً عند الباب، حيث وقف ثلاثة مسلحين «ينظمون» الطابور. بعد عناء، دخل المقاول ليقف أمام الموظف المسؤول عن استقبال المراجعين، واتضح أن دوره بات مقتصراً على قراءة تعليمات اللجنة المسؤولة عن إجراءات الصرف، وتتألف من أعضاء بارزين في التنظيم.
قال الموظف لمحجوب: «الصرف يقتصر على الحسابات الجارية، ولا يشمل حسابات الدوائر والمؤسسات العامة التابعة للحكومة، والحسابات الخاصة لأشخاص (معنويين أو طبيعيين) مسيحيين أو أيزيديين أو شيعة أو سنة «مرتدين»»، بحسب تصنيف اللجنة.
وتلاشت آمال محجوب الذي خسر ممتلكاته كلها، حتى منزل عائلته بسبب أعمال المقاولات الفاشلة، وقبل صرف صك انتظره طويلاً بمبلغ (250 ألف دولار) سقطت الموصل بيد «الدولة».
لم يملك الرجل غير التزام التعليمات، توجه إلى موظف آخر وباشر إجراء كشف على حسابه، ثم انتقل إلى اللجنة «الداعشية» للتدقيق في تفاصيل الرصيد لتقرر إما الموافقة على الصرف أو الرفض.
في هذه الاثناء، كان المئات ينتظرون خارجاً على أمل سحب أرصدتهم من البنوك، ولم يجرؤ أحد منهم على الاحتجاج على عدم التزام الطابور، بعدما أعلن أحد المخالفين أنه «يقاتل على الخطوط الأمامية في جبهات القتال»!
غير بعيد عن الفرع (112)، وقف رجل يراقب ماذا يجري خارج المصرف، إنه واحد ممن ارتأوا التريث في إجراءات السحب حتى التأكد من صدق نيات «الدولة».
خرج محجوب من البنك حاملاً مبلغ 10 ملايين دينار (تعادل 8 آلاف دولار فقط)، وعندما تقدم منه الرجل المترقب ليسأله عما حصل معه قال: «بعد التحقيق الذي أجراه أعضاء اللجنة معي، أبلغوني أنه يحق لي سحب 10% فقط من رصيدي، على ألا يزيد ما أسحبه على 10 ملايين دينار».
واستدرك: «عندما حاولت إقناعهم بأن رصيدي يبلغ 300 مليون دينار، قال أحدهم بحزم «لست الوحيد، هذه تعليمات تسري على الجميع».
المترددون والمراقبون يعتقدون أن الهدف من إعادة فتح المصارف هو الاطلاع على تفاصيل حسابات الإيداع، وخاصة أن «الدولة» تهتم كثيراً بقضية الأموال، لذا فقد تقوم بعد هذه الخطوة بسحب الأرصدة التابعة للمؤسسات والدوائر الحكومية، وأرصدة المطلوبين والمسيحيين وغيرهم.
فيما يرى آخرون أنها مجرد حركة دعائية بعد تصاعد نقمة الناس على التنظيم بسبب التدهور الاقتصادي الكبير الذي تشهده مدينة الموصل.
ثمة نسبة يستقطعها «الدولة» من المبالغ التي تُسحب من البنوك، وهي 10 %، المفارقة أن المزارع محمد الفتحي دفع هذه النسبة مرتين، الأولى عندما سوّق محصول القمح إلى الشركة العامة للحبوب، فقد أمر المزارعون بدفع الزكاة «للدولة الاسلامية»، لأنها «المسؤولة عن الرعية وكفيلة بجباية الزكاة وتوزيعها»، والثانية عندما سحب رصيده من البنك.
فتحي كان رصيده 20 مليونا، بعد إجراءات شاقة استغرقت 3 أيام، عاد إلى بيته وفي جيبه مليونان فقط، تطبيقاً لمبدأ نسبة العشرة في المئة.
وفي إطار البحث عن تفسير لإجراءات «الدولة» الأخيرة، نجد أن معهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركي قال في آخر تقرير له، إن الأموال التي استولى عليها التنظيم، والمقدرة بنحو 500 مليون دولار، لن تكفي لفترة طويلة، بسبب الكلفة العالية للنزاع الذي يخوضه على جبهات عدة، كما أن مقداراً غير معروف من هذه الأموال يدفع رواتب لموظفي الحكومة ومخصصات التقاعد، وفي حال عدم سداد هذه المدفوعات، فإنه سيقوض الدعم الشعبي.
وأخطر ما جاء في التقرير، «أن جزءا من تلك الأموال، قد يختفي في الحسابات الشخصية لبعض قادة الدولة الإسلامية».