صنعاء | «ثورة ضد الفساد بأشكاله كافة». عنوان عريض قدّمه زعيم حركة «أنصار الله» عبد الملك الحوثي في خطابه الأخير، مبرزاً مطالب «التحرك الحوثي» المتواصل في البلاد منذ أكثر من أسبوعين. التحرّك عنوانه اجتماعي، مطلبي، غير أنه استطاع أن يعيد تظهير صراعات إقليمية ودولية على الساحة اليمنية، وعلى رأسها الصراع السعودي ـ القطري. ففي موازاة الاعتصامات الشعبية التي يقودها الحوثيون، يحتدم الصراع بين السعودية وقطر على النفوذ في اليمن، وعلى الحفاظ على موطئ قدم داخل المشهد السياسي اليمني.
اعتمدت الدولتان في صراعهما القائم على سياسة الإفراغ المؤسساتي، بشكل أجهض كافة العمليات السياسية وشلّ نفوذ الدولة اليمنية على مستوى كافة المحافظات لتبرز محلها صراعات طائفية وجبهات حرب داخلية ممولة من الطرفين الخارجيين. واستهدفت مجمل التوجهات الطرف الأقوى في الساحة اليمنية المتمثل بـ«أنصار الله»، الجماعة التي يرى فيها اللاعبون الدوليون خطراً يهدد مصالحهم جملةً وتفصيلاً، نظراً إلى ما ترفعه من شعارات مناوئة للنفوذ وللهيمنة الأميركية وما يتصل بها من تحالفات على المستويين المحلي والإقليمي المترابطين في توجههما لرسم الواقع اليمني وإعادة انتاجه.
«أنصار الله»، القوة الصاعدة إثر تمكنها من إزاحة «امبراطورية عيال الشيخ ـ الأحمر»، الذي جر وراءه نفوذ «الإخوان المسلمين» و»حزب الاصلاح» إلى الانحسار الكلي، بشكل أكسب «أنصار الله» تأييداً شعبياً قوياً والتفافاً جماهيرياً حول عبد الملك الحوثي، زعيم «أنصار الله» التي تتخذ من صعدة مركزاً استراتيجياً لنفوذها ولتحركها على مستوى اليمن.
وفقاً لهذه المقاربة، قد يبدو السياق بعيداً عن الإشكاليات اليمنية المعروفة، لكنْ في ذلك نبش لما غاب عن الذهنية العامة للرأي العربي والعالمي حول حقائق جوهرية حول وجود «أنصار الله». وتضخم الصراع أيضاً حين نجحت القوى الدائرة في فلك «الاخوان المسلمين» في اليمن، في جر المخاوف إزاء «أنصار الله» إلى مربع الصراع المباشر بين هذه الجماعة وجارتها السعودية، وذلك تحت سيل من الشائعات الإعلامية التي بثتها وسائل «الإخوان» بشأن مزاعم ارتباط «أنصار الله» بإيران وتحولها إلى أداة إيرانية تهدد الحدود الجنوبية للمملكة.
وبرغم تأكيدات «أنصار الله» في أكثر من موطن ومناسبة أن علاقتهم بإيران لا تحكمها أية أجندة أو سياسات ضد السعودية، أو ضد أي طرف آخر محلي أو إقليمي، واقتصار التحالف القائم مع طهران على الالتقاء في «محور المقاومة» الداعم للقضية الفلسطينية والرافض للهيمنة الأميركية على شعوب المنطقة، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لمنع مخاوف المملكة من تصاعد الدور القطري عبر استخدام أبرز الحلفاء السابقين للمملكة بهدف مواجهة «أنصار الله»، ومن أبرز الأطراف تلك الدائرة في فلك «الاخوان»، وقبلياً تلك الدائرة في فلك آل الأحمر. ودفعت هذه المعطيات السعودية إلى التدخل المباشر في تمويل ورعاية جبهات حرب في محافظتي الجوف ومأرب. جبهات يفجرها نافذون قبليون ودينيون.
ويبدو الوضع معقداً ومتشابكاً بشكل يجعله يبدو عصياً على الفهم برغم سهولة تفكيك شيفرته. فقد انقسمت القوى اليمنية المتصارعة بين ولاءات متعددة إثر «ثورة 11 فبراير 2011»، التي أربكت الوضع السياسي اليمني بإسقاطها الرئيس السابق علي عبد الله صالح المعتبر الحليف الأول للسعودية، وإعادة انتاج دور علي محسن الأحمر و«حزب الاصلاح» والصعود بهم إلى سدة القرار السياسي بدعم مالي قطري واضح.
ومما يزيد المشهد تعقيداً، أن انقسام الولاءات بين القوى السياسية وإعادة تشكلها في الساحة اليمنية بين قطر والسعودية، تأخذ كخلفية الصراع الإخواني مع السعودية، الذي تضاعف إثر الدعم السعودي لعزل «الاخوان» في مصر.
يلخص الكاتب والناشط السياسي اليمني علي البخيتي صورة ذلك التهاوي للنفوذ السعودي والتغير لخريطة الولاءات إثر صعود «أنصار الله» كقوة وحيدة إلى الواجهة بعد تمكّنها من «إسقاط» مناوئيها في عمران وقوى التحالفات «الاخوانية» في صعدة، حين يرى أن سقوط التحالف – الممول لعقود من السعودية – في محافظة عمران شعبياً وسياسياً وعسكرياً، بعدما سقط في صعدة وأغلب مناطق الجوف وحجة والمحويت وذمار ومحافظة صنعاء، ترافق مع استشعار السعودية وبعض دول الخليج أن الخطر الحقيقي على أنظمتهم نابع من «تيار الإخوان المسلمين» ومن بعض الحركات الأصولية.
ويشير البخيتي الى أن «الإخوان» داخل اليمن، أي «حزب الإصلاح»، هم من بادر إلى الانقلاب على تحالفهم الوثيق مع السعودية، معتقدين خطأ أن الدور الأميركي أصبح أكثر تأثيراً وضماناً وديمومة، لذلك تجرؤوا على «مهاجمة آل سعود والتحريض عليهم على لسان حميد الأحمر وقيادات اخوانية وازنة، معتبرين أنها تعيش لحظاتها الأخيرة».
من جهتها، يبدو أن قطر لم تحسن اللعب في محاولة بسط نفوذها شمال اليمن عند حدود المملكة، حين باشرت القوى المدعومة منها في حرب مفتوحة وواسعة تستهدف «أنصار الله» عند تلك الحدود. ولم يستوعب الرأي العام اليمني تلك المعطيات ولم يتعامل معها بجدية، وبعد أسابيع قليلة على عودة اللواء علي محسن الأحمر من قطر، بعد شهر رمضان الماضي، انفجرت حرب واسعة في ثلاث جبهات عند حدود المملكة السعودية في كتاف، حرض، الجوف، وذلك بذريعة الدفاع عن دماج.
في غضون ذلك، يبدو أن الحديث بشأن صراع النفوذ بين قطر والسعودية في اليمن قد ينحسر بالتزامن مع تصاعد الضغط الشعبي على السلطة لإسقاط الحكومة، والتي بلا شك ستسقط معها كافة الولاءات. ويضع هذا المشهد حلفاء قطر بين فكي كماشة، ويضعهم كذلك أما خسارة رهيبة تقضي على كل أحلامهم، نهائياً.
ويدرس اللاعبون الدوليون الأوضاع جيداً ويحرصون على احتواء اكثر من طرف والتحرك في أكثر من اتجاه. لذلك اتجهت السعودية بالفعل، بحسب متابعين، إلى اعادة تحالفها القديم مع الرئيس علي عبد الله صالح والنهوض به أمام حلفاء قطر في صنعاء، وتحويله من رئيس إلى شيخ قبلي تتبناه السعودية ليحل محل حليفها الراحل الشيخ عبد الله بن حسين الاحمر في إحكام القبضة على الوجاهات القبلية في اليمن، إضافة إلى محاولة احتواء الرئيس عبد ربه منصور هادي وتوجيهه لحماية نفوذها في اليمن. وبالتالي، يبدو أن احتواء الرئيس هادي أصبح محور الصراع الرئيسي بين قطر والسعودية.
ومن الواضح في تجليات الواقع السياسي اليمني خلال اليومين الأخيرين، أن الرئيس اليمني كان المستفيد الأول من صراع حزب «الاخوان المسلمين» مع «أنصار الله»، إذ تفككت تلك القوى «الإخوانية» التي كبلت هادي طوال عامين ماضيين وحالت دون تحركه في أي تحرك إيجابي لبناء الدولة اليمنية وتنفيذ مقررات الحوار الوطني.