لم ينل جلال بلعيدي المرقشي من ميوله الطفولية ونزعاته الشبابية شيئاً. ولعه بكرة القدم يوم كان صغيراً وتخصصه في الكيمياء عقب تخرجه في المدرسة لم ينقشا في شخصيته أياً من جمالاتهما. فلا الكرة لقّنت روحه دروس السماحة والتهذب، ولا الكيمياء ولدت في نفسه تفاعلات المحبة ومفاعيلها. مختلفاً تماماً خرج جلال. لعلها المفارقة عينها التي تسم حياة الكثير من "الجهاديين". مفارقةٌ تجلي في كل قِتلة من مصارع الداعشيين والقاعديين خطورة الخطاب الذي يتغلغل في تلافيف هؤلاء، محيلاً إياهم إلى وحوش بشرية جل مطمعها حز نحر أو فصل رأس عن جسد.
من قبائل المراقشة التي تستوطن محافظة أبين جنوب اليمن ينحدر جلال بلعيدي الملقب بأبو حمزة الزنجباري. هو الأخ الأصغر لأربعة أولاد وثلاث بنات، لكن والديه لم يتوقعا البتة أنه سيكون ألمعهم نجماً. بدأ المقاتل الداعشي الثلاثيني حياته الأكاديمية في إحدى مدارس أبين، حيث كان معلموه يصدرونه "الطابور الصباحي" لتلاوة شيء من القرآن. يقول أحد أقاربه: "إنه كان ذكياً، سريع البديهة، لماحاً، يمتلك الشجاعة والجرأة في النقاش، وربما تقدم بذلك على عمره الزمني". اهتم جلال منذ نعومة أظفاره بالرياضة، تتبع أخبارها وسعى في مجاراة نجومها، من هنا كان التحاقه بنادي حسان، النادي الأبرز في محافظته. لعب في فرقه المختلفة حتى وصل إلى الفريق الأول لكرة القدم ما بين عامي 2000 و2001.
عام 2003، بدأ جلال دراسته في قسم الكيمياء في كلية التربية في زنجبار، سنوات معدودات تخرج على أثرها في الجامعة بترتيب متقدم ليبدأ عمله في مجال التعليم، محافظاً في الوقت نفسه على صداقته الحميمة للملاعب. هذه السيرة سرعان ما ستطرأ عليها تبدلات جذرية تقذف ببلعيدي من حياة إلى أخرى. لم تكد تمر فترة وجيزة على تخرجه حتى أضحى إماماً لأحد المساجد في زنجبار. ومع دخول عناصر "القاعدة" إلى المدينة عام 2011، توارى جلال عن الأنظار. راجت الأنباء يومذاك عن انضمامه إلى إحدى الجماعات الجهادية، رفض أقرباؤه وأصدقاؤه تصديقها، غير أن اليقين لم يَطُل حتى قطع الشك: جلال بلعيدي أميراً لـ"ولاية أبين الإسلامية".
أقر جلال بلعيدي
بتعاون رجالاته مع التحالف السعودي

لمدة سنة كاملة، مارس المرقشي إمرته على أبين، منتهجاً سياسة القبضة الحديدية والترهيب والإخضاع بالإرعاب. عمليات قتل متعددة نفذها رجالات بلعيدي بحق أبناء المحافظة منذ استيلائهم عليها، عمليات كانت أشهرَها اثنتان: أولاهما راح ضحيتها الطفل خالد عبد العزيز (15 عاماً) الذي قطعت يده بتهمة سرقة كابلات نحاسية وبيعها لأحد تجار الخردة، وقد توفي الطفل بعد يومين من تنفيذ الحكم جراء المضاعفات التي حصلت لجسده. أما الثانية فاستهدفت ثلاثة من سكان جعار؛ بينهم امرأة، أُعدموا وصُلبوا بتهمة "التجسس لصالح الجيش اليمني". خلال تلك الفترة أيضاً، عمد مسلحو "أنصار الشريعة" إلى أسر سبعين جندياً في أبين، وعلى الأثر بدأت جهود وساطة قادها المرقشي بنفسه مع ممثلي الدولة، غيرَ غافل عن استغلال الحادثة للترويج لـ"أنصار الشريعة" في أوساط الشباب الأبيني، حيث ألقى محاضرة شهيرة في الجنود حثهم فيها على عدم قتال "من يحكم بشرع الله".
مع بدء عملية القوات المسلحة اليمنية لتحرير أبين من "القاعدة" عام 2012 والتي أطلقت عليها تسمية "السيوف الذهبية"، غادر جلال إمارته ليبدأ مرحلة تنقل بين محافظات شبوة والبيضاء وحضرموت. مرحلةٌ سَجَلت الكثير من العمليات الإرهابية التي نفذها بلعيدي ومقاتلوه ضد الجيش اليمني في غير محافظة من البلاد، وخصوصاً في حضرموت. أشهر هذه العمليات وقعت في أيار من العام 2014 عندما اقتحم عناصر القاعدة مدينة سيئون في حضرموت وهاجموا مبانيها الحكومية وحواجزها العسكرية والأمنية ونهبوا بنوكها. وقد ظهر حرص المرقشي يومها على نشر صوره بكثافة من داخل المدينة، ما دفع بعض المتخصصين في شؤون الجماعات الإرهابية إلى القول إن جلال قيادي نهم بالإثارة ومهووس بحب الظهور ومصاب بجنون العظمة.
في 8 آب 2014 كانت فظاعة أبو حمزة الزنجباري ذائعة الصيت، في ذلك اليوم قاد الرجل عملية اختطاف 14 جندياً يمنياً وذبحهم بدم بارد. في مدينة حوطة زين في محافظة حضرموت وأثناء توجههم من سيئون إلى صنعاء، اعتُقل الجنود ونُحروا ورميت جثثهم على قارعة الطريق، فيما فصلت رؤوس بعضهم عن الأجساد. المفارقة أن الزنجباري اعتلى الحافلة عقب خطف عناصره الجنود، مخاطباً ركابها الباقين بالقول: "نعتذر عن أي إزعاج لكم"! كانت تلك الواقعة الإشارة الأولى لتسلل "داعش" إلى اليمن.
مع اندلاع العدوان السعودي على هذا البلد، صعّد قياديو "القاعدة" وفي مقدمهم بلعيدي عملياتهم في المحافظات الجنوبية، مستغلين الانفلات الأمني الذي خلفته الحرب. هكذا سيطر "أنصار الشريعة" على غير منطقة في الجنوب، ولا سيما في حضرموت. تطورات فندها المرقشي في آخر تسجيل مصور له تحت جناح "القاعدة"، حيث أقر بتعاون رجالاته مع التحالف السعودي قائلاً: إن "القاعدة" هي التي حررت عدن ولحج وأبين، وإن دخول التنظيم المكلا ساعده في مد جميع الجبهات بالسلاح والرجال. واعترف بلعيدي بأن القاعديين يشاركون في جبهتَي تعز وإب "حتى دحر الحوثي إلى مران".
قبل أشهر، أعلن أبو حمزة الزنجباري من وادي سر في حضرموت انشقاقه عن "القاعدة" ومبايعته أبي بكر البغدادي. مبايعةٌ انطلقت في أعقابها دورة جديدة من العنف الموسوم بعلامة "داعش" والمتفلت من أيّ عُقُل. اليوم، تختم طائرة من دون طيار على حياة الزنجباري، تختم عليها راسمة الكثير من علامات الاستفهام وفاتحة الأبواب أمام سيناريوات ليس الانبساط الداعشي في اليمن مستبعداً منها.