غزة | أقف أمام الصفحة البيضاء أحاول الكتابة إليك، أتساءل بيني وبين نفسي ما الذي يجعل الأمور صعبة بهذه الصورة؟ أتخيلك تُراقبني عن كثب، تكتم ضحكتك جيداً. أحسّك الآن وكأنك تتفاخر بنفحة الشعر التي هبّت بين ضلوعك على حين غفلة، فجأة بدأت تنهمر الكلمات بين يديك، هل تدري؟ في غرفتك ودون أن تدري كنت ألمحك شارد الذهن، كأنك تجول برأسك يميناً ويساراً كمن يبحث في فضاء الغرفة عن المعاني المنشودة. فجأة، وذات لحظة، تنفرج أساريرك عن ابتسامة كبيرة. وقتها، عرفت أنّك أخيراً تمكنت من التقاط كلماتك العنيدة من جوفك.
عن هذه اللحظة أرغب في الحديث حتى الغد، لا بل حتى العام المقبل، عساني أملّ من تفاصيل المشهد ولن أملّ. وربمّا أسعفني خيالي بخلق تفاصيل جديدة، تُنعش اللحظة وتعيد بث الروح فيها. ليس لدي أي رغبة في إخبارك كيف تلقيّنا فاجعة استشهادك، حقيقة رحيلك كأنّك كنت حلماً، شيء فائق السرعة يقفز من هنا إلى هناك، يوزّع الضحكات على أطفال البيت واحداً تلو الآخر، كأنّي به يختبر قدرتهم على السعادة كلمّا رآهم. أمضينا ليلة هي الأحلك، وفي غزة كثيرة هي الليالي الحالكة، بينما كنا ننتظر إلقاء النظرة الأخيرة على جثمانك الطاهر.

بالأصل لم نعرف كيف مرّت تلك الليلة علينا! كيف تأكدنا ملء عيوننا وفواجعنا كلها أنّك رحلت عن الدنيا، لتلتحق بركب أخينا الشهيد الذي سبقك، مثلما تمنيت صدقاً منذ لحظة استشهاد مصطفانا.
المهم أنّك الآن برفقة مصطفى الآن، مثلما تمنيت طويلاً. بالله أيّ سماء احتضنت شوقيكما؟ وكيف التقت روحاكما؟ كيف احتفلتما؟ ماذا تفعلان الآن؟ أتراقبان حزننا على فراقكما؟ كيف هو الرحيل عن الدنيا؟ إلى من ترسلان طيفكما هذه الأيّام؟ لقلب أمي المفجوع أم قلب أبي الحزين؟ بم تتهامسان؟ أيّ حديث تتبادلان؟ أي حياة تعيشان؟ بالله صفها لنا. أتكون كما تمنيتما؟ كما تشوقتما؟ وكيف تريان الدنيا هذه الأيّام؟ هل تلمحان تلصّصنا على صوركما وذكرياتكما؟ دفاتر خواطرك يا محمد، قلبناها حرفاً حرفاً، لم تمر كلمة دون أن نُخمّن حكايتها معك، ونحن نعلم أنّ سرّها معك. أنت وحدك.
هل أفضت في الأسئلة فأثقلت عليكما؟ أم أنني بالفعل أحاول ابتداع الكلام كي أبقى أطول وقت ممكن بقربكما؟ هل أتحايَل على الوقت أم على نفسي؟ وهل تغفران لي انشغالي عنكما أيّام كنا نتجول ثلاثتنا في البيت، نتخاصم حيناً، نتصالح حيناً، هل تغفران لي شرودي الطويل عنكما؟ هل ستبلغان السماء شوقي لها؟ هل تعلمان بقدر حبّها لي؟ هل ستلمّحان لي بذلك يوماً ما؟
وأنت يا مصطفانا طمئن قلبك كثيراً. ولدك مسلم هذه الأيّام يغفو بقرب أمنا الحنونة، يحتضنها بحنوّ ليخفف من ألم فراقكما، كأنّه بروح من الله يعرف طريقه إلى قلبها دون أطفال البيت، حتى أنّ هدهداته البريئة وحدها تجعلها تبتسم من جديد.
كل شيء على ما يرام يا محمد. كل شيء على مايرام يا مصطفى.
* استشهد محمد عطاالله، شقيق الزميلة تغريد، في العدوان الحالي على غزة