تُعدُّ الإدارة الأميركية خطواتها في مواجهة خطر تنظيم «الدولة الإسلامية»، على نار هادئة. ترسم خطة هنا، تمحو أخرى هناك، وربما تعدّل في ثالثة. على الأقل، هذا ما يتجلى في تصريحات مسؤوليها، الذين حتى إن أبدوا في الفترة الأخيرة إصراراً على القضاء على التنظيم الإرهابي، إلا أن ذلك وحده لم يطمئن الكثيرين، وخصوصاً في الداخل الأميركي.
ربما هي خطورة المرحلة التي تستدعي كل هذا الحذر، أو ربما هي أسباب أخرى أكثر أو أقل أهمية، ولكن ما تحاول واشنطن استنباطه من الأوضاع الحالية، التي فرضت نفسها على الساحة السياسية الدولية، ليس موجوداً فقط في الميدان، بل تعج به حناجر المراقبين والسياسيين، وحتى المدنيين في أميركا والغرب، التي تحاول رسم طريق واضحة تساعد على التقدم، بغية الوصول إلى حلّ جذري. وهذه الحناجر لا تنضح دائماً بما يرفع معنويات الإدارة الأميركية، بقدر ما تطلق انتقادات لاذعة لما كان قبل اللهجة الصارمة، ولما سيأتي بعد الإصرار الذي آثرت مراكز القرار، إظهاره في الآونة الأخيرة. وكل ذلك يفتح الباب أمام تأويلات، ليست الإدارة الأميركية في غنى عنها، حتى تتبلور الصورة.

الجمهوريون أكثر
دعماً للغارات الجوية من الديموقراطيين


المفارقة التي صنعتها الأحداث الأخيرة على مستوى التقويم الداخلي للسياسة الخارجية الأميركية، هي اتفاق الجمهوريين والديموقراطيين، نسبياً، على أن ما تقوم به واشنطن حتى الآن هو الحل الأفضل، باستثناء أصوات بعض الجمهوريين المعترضة على نظرية «الضربة المحدودة»، التي برزت على أنها خيار واشنطن المفضل. من هؤلاء، المعارض الدائم للرئيس أوباما، جون ماكين، الذي شدد على أن «الدولة الإسلامية» يجب أن يصبح نقطة تحول في مداولات أوباما بخصوص كيفية التعامل مع التنظيم، وأنه يجب أن تزيد بصورة كبيرة الضربات الجوية، قبل أي شيء آخر، على أن «تكرس تلك الضربات لسوريا أيضاً». والسيناتور ريك بيري، مثال آخر على الاعتراض الجمهوري. فهذا الأخير شدّد على أن كافة الخيارات الأخرى يجب أن تكون مفتوحة أمام الإدارة الأميركية، في ما يتعلق بالملف العراقي.
مفارقة أخرى ساهمت استطلاعات الرأي في إبرازها، وهي أن الجمهوريين بدوا أكثر دعماً للغارات الجوية التي أقرها الرئيس الديموقراطي، من الديموقراطيين أنفسهم. فبحسب استطلاع نشره مركز «بيو» للأبحاث، وافق 54 في المئة من الأميركيين على الغارات ضد مسلّحي «الدولة الإسلامية»، في مقابل 31 في المئة ممن عارضوا هذه الضربات. وانقسم الشعب الأميركي، وفق الاستطلاع نفسه، حول ما إذا كان على الولايات المتحدة مسؤولية التصرف إزاء العنف في العراق، حيث رأى 44 في المئة أن عليها ذلك، في مقابل 41 في المئة رفضوا هذه الخطوة.
وأيضاً، أشار استطلاع «بيو» إلى أنه على الرغم من وجود دعم شعبي للغارات الجوية، إلا أن ذلك لا يلغي القلق المتزايد من أن تصبح الولايات المتحدة متورّطة أكثر في العراق. ففي مقابل 51 في المئة ممن أعربوا عن خوفهم من ذهاب دولتهم إلى أبعد من ذلك في العراق، هناك 32 في المئة أعربوا عن قلقهم من العكس، وهو ألا تتدخل الولايات المتحدة أكثر في العراق.
وبرغم ما تقدم، فقد لفت استطلاع آخر نشرته صحيفة «ذي واشنطن بوست» الأميركية، إلى أن القرار الأخير الذي اتخذه باراك أوباما لم يشفع لشعبيته التي ما زالت منخفضة في ما يتعلق بسياسته الخارجية، وخصوصاً خلال الأزمة في العراق. فـ42 في المئة من الأميركيين ما زالوا يرون أن الرئيس، أخفق في تعامله مع الوضع في العراق.
وخارج إطار الاستطلاعات والأرقام، حاول بعض المراقبين والمطّلعين على الوضع في العراق، أميركياً وغربياً، تحليل ما إذا كان الحزم الذي ظهر على وجه الرئيس الأميركي، سيتبلور على أرض الواقع دفعاً إلى الأمام. فبالنسبة إلى البعض، حتى لو وصف أوباما «الدولة الإسلامية» بـ«السرطان» الذي يجب اقتلاعه، فإن ذلك لم يغيّر الكثير. فالإدارة الأميركية لم تدرس بعد خيارات عسكرية نوعية جديدة ضد «الدولة الإسلامية»، بعد ذبح الصحافي جيمس فولي، وخصوصاً أن الإعلام الأميركي نقل عن مسؤولين في واشنطن تأكيدهم بعد تصريحات أوباما، أن السياسة الأميركية في العراق ستكمل على ما هي عليه، ولن تشهد تغييراً مهماً.
الكاتب في صحيفة «ذا غارديان» البريطانية سبنسر أكرمان، أشار في سياق أحد تقاريره، إلى أن الإدارة الأميركية ما زالت تتحدث عن ضربة محدودة لتنظيم الدولة الإسلامية، برغم الغضب الشعبي الأميركي الواسع رداً على مقتل مواطن أميركي، وفي الوقت الذي ما زال فيه التنظيم الإرهابي يستولي على مناطق جديدة في حلب، ويحصّن وجوده في العراق.
أضف إلى ذلك، معضلة جديدة لم يغفلها جزء آخر من السياسيين والمحللين، وهي طبيعة «الدولة الإسلامية» العابرة للحدود، التي كانت مركز اهتمام العديد من الأصوات المنتقدة للسياسة الخارجية الأميركية، والتي بدت غير مقتنعة بأن محاربة «الدولة الإسلامية» في العراق وحده، ستثبت فعالية. السفير الأميركي السابق إلى سوريا رايان كروكر، رأى في هذا الإطار، أنه يجب التصرف مع «الدولة الإسلامية» انطلاقاً من فكرة محوه للحدود بين العراق وسوريا. وقال إنه «يجب ملاحقة عناصره في سوريا والعراق، فهم لا يحترمون الحدود، وبالتالي نحن يجب ألا نحترمها أيضاً».
ولكن خلاصة كل ذلك، أن أي تصعيد فعلي يمكن أن يقلب المعادلة على أرض الواقع، سيكون بحاجة إلى موافقة من الكونغرس الأميركي، الذي لم تتوافر لديه بعد الإرادة السياسية الكافية لأي تغيير جدي، وخصوصاً في ظل عدم وجود شهية كافية لذلك، لدى الشعب الأميركي.