غزة | باتت تل أبيب تدرك أنها أمام قوة صاروخية غير مسبوقة على مدار سنوات من الصراع ضد المقاومة الفلسطينية، فكيف استطاعت الفصائل الوصول إلى ما وصلت إليه رغم تعرّضها لحصار برّي وبحري قوّض عمليات تهريب السلاح، وخاصة من سيناء إلى غزة، إضافة إلى القبضة الأمنية على الحدود من الجانب المصري، فضلاً عن تكثيف خفر السواحل الإسرائيلي ملاحقته الفلسطينيين في عرض البحر؟
حاولت «الأخبار» البحث عن إجابة شافية لهذا السؤال، لكن واجهتها معضلة كبيرة في ظل احتفاظ المقاومة بأسرار كثيرة وتكتّمها على ما اعتبرته معلومات تخص قدراتها الصاروخية ويحرّم البوح بها، قائلة إنها تخوض بالتوازي حرباً في الاستخبارات والمعلومات.
مع ذلك، يمكن أن نجد بالتعرّض التدريجي للقدرة الصاروخية للفصائل أن إدارة حركة «حماس» للحكم في قطاع غزة، بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006، أسهمت في تعزيز قوة المقاومة عموماً. وقد اقتنصت كتائب القسام، وسرايا القدس (الجهاد الإسلامي) المرحلة، واستفادتا خير استفادة من أنفاق التهريب التي كانت في «عصر ذهبي» أسفل الحدود الفلسطينية ـــ المصرية، وزودت الأذرع العسكرية نفسها بالعتاد العسكري تحت هذا الغطاء السياسي.
وقبل التهريب، يجب الإشارة إلى أن المقاومة دشّنت في السادس والعشرين من تشرين الأول 2001 مرحلة جديدة في الانتفاضة الثانية بإطلاقها أول صاروخ محلّي الصنع على مستعمرة «سديروت» التي تبعد بضعة كيلومترات عن شمال القطاع.
ولا يمكن القفز عما كانت مجلة «التايم» الأميركية قد نشرته مطلع الألفية الثانية، بشأن انتقال المقاومة إلى استخدام الصاروخ، واعتبارها أن هذا الأمر سيغيّر الشرق الأوسط. ولا يعدو مبالغة القول، وفق مراقبين، إن الصواريخ باتت اليوم تشكل خريطة صراع جديدة في المنطقة، وخاصة لو زاد تأثيرها وفعاليتها بعد الحديث عن مداها ورأسها التفجيري.
وبالتزامن مع طوق الحصار السياسي والاقتصادي الذي لفّه المجتمع الدولي عام 2007 حول رقبة غزة، منيت المقاومة بطعنة في الظهر حينما باغتتها إسرائيل بحرب ضروس في الثامن والعشرين من كانون الأول 2008 عرفت باسم «الرصاص المصبوب»، وما لبثت المقاومة أن استفاقت من الضربة القاسية حتى أمطرت الكيان بوابل من الصواريخ المحلية ذات القدرات المحدودة والمديات القصيرة ولم تكن تتعدّ العشرات يومياً في أحسن أحوالها.
في ذلك الحين، كانت عمليات القصف التي تقودها المقاومة، وطالت تخوم غزة، تشكّل خطراً على أمن الإسرائيليين، وخاصة في مستوطنات غلاف غزة، وتحصي البيانات العسكرية آنذاك أنها تمكنت من إطلاق أكثر من 980 صاروخاً طوال الحرب التي استمرت 22 يوماً (المعدل 44 يوماً)، لكن تلك الحرب لم تستطع أن تقضي على المقاومة.

تضاعف المدى الصاروخي للمقاومة مرتين خلال ثلاث حروب

وضعت الحرب الأولى أوزارها في الثامن عشر من كانون الثاني 2009. ومنذ ذلك اليوم، اتجهت عيون المقاومين إلى الأنفاق لهدفين: الأول تهريب بعض الصواريخ الجديدة كـ«غراد»و«كورنيت» وجلب المواد التفجيرية، وثانياً لتدريب عناصرها خارج فلسطين على صناعة الصواريخ وحسن تصويبها، وفق تأكيد محافل ميدانية في المقاومة الفلسطينية.
وأكدت هذه المحافل أن المقاومة استفادت من بعض إخفاقاتها الميدانية في تلك الأيام، وأعادت التفكير في اتجاهات مختلفة، لذلك جرى القرار لتطوير خططها العسكرية، والجانب الآخر له علاقة بمنظومتها الصاروخية.
في هذا السياق، قال قائد في الوحدة الصاروخية في «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، إنهم استفادوا من تجربة الحرب «وأسسنا عليها تدعيم قوتنا الصاروخية وتطويرها على نحو يخالف توقعات العدو» واستدرك لـ«الأخبار»: «واجهتنا تعقيدات تتعلق بتشديد الرقابة على الحدود المصرية، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع سيناء ووعورة جغرافيتها، وفي المجمل كان ذلك يجري بمساعدة البدو هناك».
وبينما كانت إسرائيل تدرس نتائج الحرب التي خاضتها بمباركة مصرية على غزة، خلال عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك عام 2009، كانت الوحدات الصاروخية في الأذرع العسكرية تسابق الزمن في إجراء التجارب على صواريخها المحلية للتأكد من تطوير مداها، وهو ما كان يعاينه الغزيون في أوقات الهدن بسماع انفجارات كبيرة، تبيّن لاحقاً أنها أعمال للمقاومة وخاصة في المناطق التي تطل على البحر.
ويكشف قائد في وحدة التصنيع التابعة لـ«كتائب القسام»، ويكنى بـ«أبو خالد»، أن عشرات المقاومين أصيبوا بأمراض مزمنة إثر استنشاقهم المواد الكيميائية المستعملة في تصنيع الصواريخ. وقال أبو خالد، خلال استعراضه لـ«الأخبار»، المخاطر التي واجهوها حتى وصلوا إلى هذه المرحلة المتقدمة من صناعة الصواريخ، إنهم يفقدون الآليات الخاصة بالوقاية والسلامة من مخاطر المواد المستخدمة، «لكننا نرى أن المشاركة في التصنيع جزء أصيل من العمل المقاوم، وأن السقوط في ميدان الإعداد لا يقل كرامة عن السقوط في المواجهة»، مشيراً في الوقت نفسه إلى استشهاد بعض المقاومين بانفجارات تحدث بالخطأ أحياناً.
وأكد القائد في «القسام» أن عدداً كبيراً من المتخصصين في التصنيع فقدوا أطرافهم خلال تحضير المادة المتفجرة، ولا سيما وقت وضعها داخل الصواريخ الأسطوانية، لكنه نفى اعتمادهم كلياً على الأنفاق في تهريب السلاح والعتاد، ملمحاً إلى البحر في حديثه.
وإلى أن جاءت حرب «عمود السحاب» في تشرين الثاني 2011، كشفت المقاومة جهد أربع سنوات من عملها المتواصل بدعم مالي وتقني من محور الممانعة، إذ وجهت إسرائيل في الرابع عشر من الشهر نفسه طلقة الرحمة على الهدنة الهشة التي كانت قد أبرمت برعاية المخابرات المصرية، واغتالت نائب القائد العام لـ«القسام»، أحمد الجعبري، ما جعل الفصائل تقدم أوراق قوتها في بداية المعركة، واستخدمت صواريخ إيرانية (فجر 3 وفجر 5) وأخرى محلية (إم 75) لقصف القدس المحتلة وتل أبيب، بالإضافة إلى استهداف شمال «هرتسيليا» التي تبعد عن غزة 80 كم، وهو ما سجل سابقة في تاريخ عملها ضد الاحتلال.
ومع مقارنة عدد الصواريخ التي أطلقتها فصائل المقاومة خلال الحربين الأولى والثانية، يتبين أن المخزون تضاعف خلال ثلاث سنوات بصورة ملحوظة، فمن 980 صاروخاً في 22 يوماً إلى 2226 خلال ثمانية أيام (278 صاروخاً وقذيفة يومياً)، وهو مستوى ناري كثيف أعلنت فيه المقاومة أنها صارت أقوى.
تلك المواجهة الشرسة بالنسبة إلى إسرائيل دفعت بها، وفق تعبير عدد من المراقبين، إلى التوافق سريعاً على هدنة جديدة بتفاهمات مختلفة، وأيضاً برعاية مصرية، لكن الرئيس آنذاك كان المعزول محمد مرسي، وهو من جماعة «الإخوان المسلمين» التي تتبع لها «حماس».
وخلال الشهرين الجاري والماضي، كشفت المقاومة خلال عدوان «الجرف الصامد» عن مفاجآت كثيرة بعد عامين فقط من الحرب الثانية، وهذا ما خيّب آمال إسرائيل مجدداً بعد إعلانها أنها استطاعت حدّ المقاومة في تحسين قدراتها، ولا سيما أن أوضاع مصر السياسية تغيرت واعتلى سدة الحكم هناك الرئيس القادم من الجيش، عبد الفتاح السيسي، وهو معروف بمواقفه تجاه الإخوان.
في هذه الحرب، فاجأت كل من «كتائب القسام» و«سرايا القدس» إسرائيل بعد إعلانهما امتلاكهما صواريخ تصل مداها إلى ما بين 100 و160 كلم واستهدفت بها الخضيرة وحيفا ونتانيا ونهاريا. كما أعلنت الكتائب عن صاروخ «جي 80» نسبة إلى الشهيد الجعبري. وقالت إنه نسخة مطورة عن «إم 75» ولديه قدرة على تضليل القبة الحديدية الإسرائيلية ومنعها من إسقاطه.
أما السرايا، فكشفت للمرة الأولى عن صاروخ «براق»، الذي قالت إن مداه أكثر من 70 كلم وبقوة تفجيرية تصل إلى 90 كلغ، واستهدفت به مطار بن غوريون وتل أبيب والقدس وقاعدة هلافيم قرب الخليل.
ولجهة المخزون، كشف أبو خالد (القسام) أن الكتائب لديها مخزون صاروخي كبير كان يكفي لمواجهة تدوم نحو ستة أشهر، مؤكداً أن ما تنتجه «القسام» من صواريخ يومياً يتراوح ما بين 60 إلى 70 صاروخاً «حتى في وقت الحرب».
وبدا واضحاً أن أكثر ما أقلق إسرائيل إمكانية إفلات صواريخ المقاومة من طوق القبة الحديدية، لكن الإضافة النوعية التي حققتها الفصائل هي القدرة على تحديد وجهة الصاروخ. ويظهر اليوم أنه بعد 13 عاماً على بدء المقاومة في غزة استخدام الصواريخ ضد الاحتلال، تحوّل هذا السلاح إلى تهديد استراتيجي لمنظومة الردع الإسرائيلية، ومن الملاحظ أن مدى هذه الصواريخ كان يتضاعف في كل حرب، فمن 30 و40 كلم إلى 75 ثم 150 كلم.




لدى «حماس» عشرة آلاف صاروخ؟

ذكرت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية، أن «حماس» خرجت من هدنة، استمرت 19 شهراً، بعد حرب عام 2012، أكثر قوة وذكاء وفعالية أيضاً في ضرب إسرائيل وإصابتها في المكان الذي يؤلمها. وأضافت الصحيفة في تقريرها المعنون «حماس تكشف عن ترسانة صواريخ أكبر وأفضل ضد إسرائيل»، إن ترسانة حماس التي تقدر بنحو 10 آلاف صاروخ هي هامشياً أكبر مما كانت عليه عام 2012، لكن صواريخها المتوسطة أصبحت أكثر دقة ولديها صواريخ طويلة المدى تصل إلى ما بعد تل أبيب والقدس، ما يعرض حوالى خمسة ملايين من سكان إسرائيل للخطر.
مقابل ذلك، تركز إسرائيل على نشر منظومات الحماية الصاروخية لتكون مع حلول سنة 2015 قد استكملت أكبر منظومة حماية صاروخية من نوعها في العالم، وتقول إنها ستغطي الأجواء الإسرائيلية كلها من أي هجوم، لكنها ستصرف أكثر من ملياري دولار لتمويلها.
(الأخبار)