نابلس | لم تكن المفاوضات غير المباشرة التي جرت في القاهرة سعياً لوقف الحرب في غزة النار موفقة من الناحية الفلسطينية، ولم يستطع الجانب الفلسطيني انتزاع شيء جوهري من الجانب الإسرائيلي، برغم الأداء العسكري المتميز الذي قدمته المقاومة. كان من المرجو أن يكون الأداء السياسي التفاوضي على مستوى الأداء العسكري، لكن كان واضحاً أن مستوى الأداء السياسي الفلسطيني أقل بكثير من العسكري، فلم يكن السياسيون على المستوى المطلوب، ولم تكن أوراق طاولة المفاوضات متناسبة مع الميدان. يعود ذلك إلى عدد من نقاط الخلل.
* خضعت تركيبة الوفد الفلسطيني لعقدة سياسية نفسية أساءت إلى المسرح السياسي على مدى عقود، وهي استئثار الفصائل الفلسطينية بكل شيء وكل نشاط، وحرمان جمهور الشعب الأوسع المشاركة الفعلية والفعالة. تقاسمت الفصائل المقاتلة وغير المقاتلة عضوية الفريق المفاوض، ولم تعر انتباهاً لقضايا جوهرية في التركيبة. فمثلاً، كان من المفروض أن يشمل الفريق خبيرين في القانون الدولي والقانون، وخبيراً في العلاقات الدولية وآخر في العلوم السياسية، وآخرين في الاقتصاد وعلم النفس. استثني الخبراء من الفريق، ولم تتشكل وحدة استشارية للوفد تعمل في الظل. هذا خطأ تكرر على الساحة الفلسطينية وبقيت الفصائل تتصرف بطريقة استئثارية تؤثر سلباً في مصلحة الشعب.
* لم تكن البيئة التي جرت فيها المفاوضات صحية في ما يتعلق بالمقاومة، لأنها خالفت مبدأً أساسياً يجب أن يتمسك به الفلسطينيون دائماً، وهو أنه لا يجوز أن تقبل المقاومة وسيطاً عربياً بينها وبين إسرائيل، لأن مجرد قبول إسرائيل دولة عربية وسيطاً يلقي شكوكاً كبيرة على سياسات هذه الدولة ونياتها. الدولة العربية التي تحظى برضى إسرائيل لا بد أن تكون متورطة في الدم الفلسطيني أو الأرض الفلسطينية، وهي دولة مساومة وليست دولة موقف. فما بالنا بدولة تعترف بإسرائيل وتقيم علاقات ديبلوماسية اعتيادية معها؟
حتى الدول الناشطة في البحث عن وقف لإطلاق النار مثل أميركا وبريطانيا وبعض البلدان العربية (السعودية) على نقيض مع المقاومة، وترغب في أن يطلع الصباح وقد تلاشت كل قوى المقاومة في المنطقة، أي إن بيئة المفاوضات كانت تؤيد زوال المقاومة وليس الاعتراف بقوتها، لذا كان على الوفد أن يصر على إقامة بيئة متوازنة تشارك فيها دول من محيط المفاوضات تدعم المقاومة وتدافع عنها. كذلك، كان من المفروض أن تكون طهران في القاهرة وفنزويلا وجنوب أفرقيا أو ما شابه.
* مقولة المفاوضات السرية هي مقولة الأقوياء الذين يتمسكون بها على مدى قرون. الاستعمار الغربي هو صاحب المدرسة التفاوضية السرية، لأنه كان يحرص دائماً على التحكم بالطاولة مع الشعوب المقهورة باستخدام القوة، وكان يرغب في أن تكون المفاوضات مسرحاً ليستعرض عضلاته ويهدد ويتوعد كيفما شاء دون أن يسمعه أحد، ثم تبنى هذه المدرسة أصحاب نظرية القوة في السياسة الدولية مثل هنري كيسنجر وهانز مورغينثاو.
بسبب عقد النقص العربية، تبنى العرب هذه المدرسة التفاوضية واعتبروها جزءاً من فن التفاوض، لكن الأصح أنّ من مصلحة الضعفاء أن تكون المفاوضات علنية كي يسمع العالم منطق كل طرف، وحتى لا تبقى الأفكار والأطروحات في الدهاليز. اعتمد مفاوض أوسلو مدرسة السرية، وسار على خطاه مفاوض المقاومة، لكن كان على المقاومة أن تفتح الأبواب أمام وسائل الإعلام لتغطي ما يطرح، وليعلم الناس مواقف كل طرف ومدى رغبته في الدفاع عن مواقفه. وأيضاً تشكل المفاوضات العلنية نوعاً من الردع للأقوياء ورصيداً للضعفاء، لأنها تدون للتاريخ وحقوق الإنسان ولتشجيع الحروب وقتل الناس الأبرياء.
* كان من المفروض أن يطوف قادة من المقاومة أو من ينوب عنهم دول العالم ليشرحوا للشعوب والمجالس التشريعية والحكومات حقيقة المجازر الإسرائيلية في غزة كي يكسبوا التأييد العالمي للطرح الفلسطيني، لكن لم يزر القادة أثناء الحرب موسكو أو بكين أو نيوديلهي أو كاراكاس أو ريو دي جانيرو. كان من المفروض أيضاً أن تتشكل وفود فلسطينة تطوف دول أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا مزودة بالوثائق من أجل فضح ممارسات العدو.
يبحث العقلاء وقت الأزمات عن الأصدقاء، ويعملون على زيادة أعداد الأصدقاء والتقليل من أعداد الأعداء. إيران وحزب الله هما الصديقان الموثوقان على الساحة الدولية للمقاومة الفلسطينية. لم نشهد قيادات فلسطينية تطير إلى طهران، أو تزور السيد حسن نصر الله. دول عربية ترسل لنا طحيناً وإيران ترسل لنا الصواريخ بممانعة شديدة من الأنظمة العربية. كان من الخطأ تجاهل طهران ودورها المحوري والأساسي في المنطقة، ولم يكن من الأصول ترك التواصل المكثف مع الحزب. لا يقف معنا وقت الضرورة بالسلاح إلا إيران وحزب الله، لذا لا يجوز أن يبقى الفلسطينيون أسرى تباين المواقف مما يجري في سوريا.
* بسبب البيئة التفاوضية غير الصحية، لم يكن المزاج التفاوضي غير الفلسطيني يبحث عن أمن الفلسطينيين، بل عن أمن إسرائيل، لهذا كان الهدف إضعاف المقاومة وليس البحث عن حل لمشكلات الناس في غزة. فانتهجوا أسلوب المماطلة حتى يصيبوا الشعب الفلسطيني بالسأم واليأس، ما قد يؤدي إلى انفضاض الناس من حولها لتضعف.
المقاومة قوية بالجمهور الملتف حولها أولاً، وثانياً بالسلاح الذي بين يديها، وإذا انفض الناس من حولها تكون قد فقدت أمضى سلاح لديها. كان المطلوب إطالة أمد المفاوضات بالتهدئات المتكررة التي لم تجد نفعاً، فأخذ الناس يتساءلون عن جدوى قبول التهدئة.
لقد أخطأت المقاومة في قبولها التهدئات المتكررة، وأفقدت نفسها زمام المبادرة، وأفسحت المجال أمام القيادة الإسرائيلية لتناور وتعيد جزءاً من هيبتها أمام شعبها.
أخيراً، على من يفاوض أن ينتبه إلى عناصر قوته كي يجعل من الطاولة فناً حقيقياً. يجب ألا تكون الجدلية التفاوضية بمستوى أقل من العسكرية. أبدعت المقاومة عسكرياً، لكن لم يكن المفاوض على قدر القوة التي وفرتها له المقاومة.