بين عامي 1985 و1988، توفي «الحاج» الذي كان عنصراً بارزاً في أحد الأحزاب اللبنانية، فما كان من الحزب الذي كان في أوج شعبيته آنذاك إلا أن علّق له صورة ضخمة في ضيعته «شهيداً»، مع بناء مدرسة ثانوية ضخمة تحمل اسم «الشهيد» ضمن سلسلة المدارس الخاصة الشبه مجانية التابعة له. ومن يومها، انتشر الخبر في الضيعة والضيع المجاورة، الحاج سقط شهيداً في الحرب، وليس أي حرب، إنما.. حرب المخيمات! انتهت الحرب الأهلية اللبنانية أول التسعينيات، وعدنا مع عودة الكثيرين من الخارج إلى ضيعة «الشهيد» التي كان قد لجأ إليها جدي قبلنا إبّان الاجتياح عام 1982 وتهجير أبناء قرى الحدود اللبنانية- الفلسطينية. أن تكون ابن «مهجّر» و»لاجئة» في ضيعة كهذه كارثة، وأن تكون ابن «طائفة» أُخرى طامة كبرى، فكيف إذا اجتمع الاثنان معاً؟

لا أقول إنني مازلت أعاني من عقدة الغريب حتى يومي هذا، ولكنني بقيت أعاني منها بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب الأهلية على الأقل. اليوم لا يشبه اللبارحة إطلاقاً، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أن اللبارحة كان بشعاً جداً. فأنا مازلت أذكر همس نساء الضيعة مع صاحبة الدكان التي كنت أقصد «البنت مؤدبة مشالله، مع إنه إمها فلسطينية!»، ما جعل والدتي الفلسطينية تُثبت حسن الجيرة حتى اليوم، فأخلصت لكل جاراتها اللواتي بادلنها بالتي هي أحسن على مدى عشرين سنة مضت. ومازلت أذكر أيضاً ابنة «الشهيد» المفترض، كيف كانت تجلس فقط على المقعد الأمامي في «أوتوكار» المدرسة، لا تتحدث لأحد، لا تجيب أحد، لدرجة أنني لم أسمع مرة صوتها. مازلت أذكر أن الكل كان يحترمها رغم عجرفتها، فهي ابنة «الشهيد»، وبذلك اكتسبت مكانة لا يُستهان بها.
يُقال إن حرب الشوارع من أبشع الحروب، في نظري هناك ما هو أبشع وأخطر. مرت السنوات، وإضطررت إلى أن ألتحق بمدرسة «الشهيد الحاج». مدرس اللغة العربية وعلى الرغم من إقراره أنني كنت مميزة عن زملائي بالصف، إلا أنه لم يستطع أن يتخطى فكرة كوني غريبة بالطائفة والسلالة، عقدة لبنانية لا تنتهي. حُبي لمحمود درويش آنذاك ىستفز أستاذي حتى انهال عليّ بالشتائم والكلام الجارح يوماً وأنا أتلو عليه قصيدة «سجل أنا عربي» أثناء صف القراءة، كلامه لايزال يصفر في أذني «تعرفي الفلسطينيين كانوا يحطونا متل الخواريف بالبيك آب ويدوروا فينا بالشوارع؟ بتعرفي إنه أبو عمّار سرق سلاحنا وقتلنا فيه؟

«الحاج ما مات
بحرب المخيمات بل بإشكال مع أخيه»!

إنتي وحدة معمي على قلبك والغشاوة ملت عيونك!».. طبعاً، هذه جرعة خفيفة مما قال، حفاظاً على مشاعر القارئ!
يومها لم أفهم، من يقصد بنحن؟ ومن يقصد بأنتم؟ أبو عمّار كان يرعى البشر متل الخواريف؟! ليس هذا فحسب، فأنا ابنة الفلسطينيين كما قال الأستاذ مُسجلة في مدرسة تحمل اسم «شهيد» قضى في حرب المخيمات... فعلاً يا عيب الشوم عليّ، كيف تجرأت أن أقرأ قصيدة لمحمود درويش داخل هذه المدرسة! من يومها التزمت الصمت، أذهب وأعود إلى المدرسة كالشبح، حتى انتهى العام الدراسي وانتقلت إلى مدرسة أخرى. لا يمكنك أن تدخل الضيعة من دون أن ترى صورته التي لا توحي أنه كان مقاتلاً، خصوصاً وهو يرتدي البزة وربطة العنق مع ذاك الشنب المشذب بالسنتيمتر. وجهه بريء وسمح، لا يعقل أن يكون قد دخل يوماً ساحة قتال. او أن يكون هذا ذاته مِمَن قضوا في حرب المخيمات، أصلاً هو يشبه رجال الأعمال، كما أن صحته ما شاء الله يعني «سمين» بعض الشيء، من المستحيل أن يكون مقاتلاً. كل هذا كان يدور في رأسي لسنوات عدة، حتى أتتني الإجابة من شخص قريب منه «الحاج ما مات بحرب المخيمات، مات بإشكال مع أخيه»!
أيعقل ذلك؟ تقول الرواية إن الحاج وأخاه كانا يسيطران على أراضي المشاع في الضيعة ويقومان بتسجيلها بأسمائهما تحت غطاء الحزب الذي كانا ينتميان إليه. وفي يوم من الأيام تشاجرا على قطعة أرض، فما كان من أخيه إلا أن أرداه ميتاً برصاصة في الرأس. وطبعاً، كي لا تنتشر الفضيحة بين أبناء الضيعة، زُف المقتول «شهيداً» ضحى بحياته أمام المد الفلسطيني في حرب المخيمات! وسُميت المدرسة باسمه، وطُبعت له الصور والملصقات، ليصبح من بعدها «شهيداً» بالقوة!
هذه الرواية هي «شهادة شاهدٍ من أهله»، وقد كان بإمكاني ان اشكك لو لم اكن ابنة القرية «ولو بالتبني»، خصوصاً انها تندرج في سياق قصص مشابهة شهدت عليها شخصياً في البيئة الحزبية نفسها. ففي فترة ليست بعيدة زرت صديقتي في بيروت على مدى يومين على التوالي. أذكر أنني ذهبت في اليوم الأول ولم يكن على جدران الجامع المجاور لمنزلها أي ملصق، إلى أن حدث إشكال دموي مساء اثر خلاف «اقتصادي»، توفي بعده شابٌ من الحي، فعدت إليها عصر اليوم التالي لأجد ملصقات تحمل صورة الشاب «ما غيرو»، مذيلة بعبارة: «شهيد المواجهة مع العدو الإسرائيلي»، وكان ذلك عام 2012!
الحاج إن كان قد قضى فعلاً في حرب المخيمات أم على يد أخيه بسبب قطعة أرض، فهو في الحالتين لا يمكن أن يكون «شهيداً» يُقارن بالشهداء الذين قضوا دفاعاً عن قضايا مُحقة في هذا العالم، وعلى الأخص في لبنان وفلسطين. وإن كان من السهل أن يصبح الإنسان شهيدا حياً عند ربنا بقرار حزبي، فأنا أوصي أهلي أنني إذا مُت إثر حادث سير، أو سكتة قلبية، أو على كَبَر، أن أسمى شهيدة، وما حدا أحسن من حدا...



حرب المخيمات، أو «حرب الخطأ بالخطأ»، هو الاسم الذي أطلق على المعارك التي دارت بين عامي 1985 و1988 لكبح نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات في مخيمات لبنان. أدت هذه المعارك إلى خروج قوات منظمة التحرير من مخيمات بيروت إلى مخيمات الجنوب، وإلى تدهور الأحوال المعيشية لسكان المخيمات. وقد أدى رفض قوى اليسار اللبناني المتحالفة مع منظمة التحرير الانخراط بالمعارك إلى سقوط معظم المناطق المحاذية للمخيمات ما ساهم في تمتين حصارها لمدة ثلاث سنوات متتالية.