رغم أن التهدئة الثانية في غزة مُددت لخمسة أيام أخرى أمس (120 ساعة)، فقد أظهرت المباحثات الصعبة أن العدو لن يتنازل إلا تحت الضغط، وأن الهدوء لم يساعد على خفض وتيرة التصريحات الإسرائيلية التي استفزت المقاومة أمس وأتى الرد عليها رسميا من مستويات عليا.
تمديد التهدئة جاء في الدقائق الأخيرة بعد دخول أميركي على خط الوساطة مثّله الرئيس باراك أوباما الذي اتصل أمس برئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، كما جاء بضغط عربي وغربي في الساعة الأخيرة. هكذا تتجاوز الفصائل الفلسطينية التوقعات برفضها التمديد لمرة ثالثة، لكنها تضع المبرر بأن المباحثات وصلت مرحلة «جدية» وإن كانت في تقدم بطيء.
أكثر ما أسهم في تأزيم الموقف أمس هو عودة مصر إلى طرح مبادرة جديدة من ست نقاط كلها تحمل كلمة «السلطة الفلسطينية» بصفتها راعية لتنفيذ النقاط، مع علمها بأن لا حضور فعليا لرام الله في غزة، وحتى إن جرى التوافق على ذلك بين حركة «حماس» ورئاسة السلطة فلن يكون التطبيق في أسبوع أو اثنين. أيضا حملت بنود القاهرة تأجيلا لشهر واثنين وحتى بداية العام المقبل بشأن النقاش في عدة بنود، وهو ما يجعل إمكانية تطبيقها أو حتى الاتفاق عليها شبه بعيد، وهذا فعليا يثير الهواجس لدى المقاومة.
في السياق، أكد نائب رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في غزة، إسماعيل هنية، أن التوصل إلى اتفاق تهدئة دائمة لا يكون إلّا برفع الحصار عن غزة. وقال في بيان نصيّ إن تضحيات الشعب الفلسطيني لا تسمح بالمساومة على الحقوق والمطالب، مجددا دعمه الوفد الفلسطيني بالقاهرة «فنحن واثقون أنه لن يخضع للابتزاز».
وعن تهديدات وزير خارجية العدو أفيغدور ليبرمان باغتياله، شدد على أن هذه التهديدات لا تخيف قيادة الحركة، «بل تزيدها إصرارًا على التمسك بمطالب شعبها». وذلك بعد ساعات من بيان لـ«حماس» قالت فيه تعليقا على تصريحات ليبرمان، إن مصلحة إسرائيل إخراسه. وكان ليبرمان قد قال: «إذا كان الإرهابيون في الجانب الآخر لا يفهمون، ولا يستوعبون، فإن عليهم أن يفهموا بأنهم سيحصلون على جثث محمد ضيف وإسماعيل هنية، وكل قيادة حماس في غزة».

رغم تأجيل
التفاوض بشأن الجثث والأسرى فلن يكون في صفقة مستقلة

أما كلمة الابتزاز التي ذكرها هنية، فترجمتها مصادر فلسطينية تحدثت لـ«الأخبار» عن أن مغادرة الوفد واردة إن استمر التعنت الإسرائيلي خاصة في ظل مبادرة مصرية «هزيلة جاءت كأنها تنقذ الموقف، لكنها لا ترضي المقاومة».
ويظهر جلياً أن الورقة المصرية الجديدة تؤجل أسلوب البحث في إنشاء وتشكيل المطار والميناء البحري في غزة «طبقاً لاتفاقية أوسلو والاتفاقات الموقعة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني»، والبحث في تبادل الأسرى والجثامين، إلى ما بعد شهر من استقرار التهدئة وعودة الحياة الطبيعية إلى القطاع.
وتنص الورقة على فتح المعابر بين إسرائيل وغزة بما يحقق إنهاء الحصار وحركة الأفراد والبضائع ومستلزمات إعادة الإعمار وتبادل المواد بين الضفة وغزة والعكس، وأيضاً «طبقاً للضوابط التي اتفق عليها بين السلطات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية». كذلك تُلغي الورقة المنطقة العازلة شمال وشرق قطاع غزة «بانتشار قوات الأمن التابعة للسلطة فيها اعتباراً من 1/1/2015، على أن تبدأ بمرحلتين الأولى بمسافة 300 متر، يجري تقليصها إلى 100 متر يوم 8/11/2014، والمرحلة الثانية تنتهي بانتشار القوات الفلسطينية».
في ما يتعلق بحرية الصيد والعمل في المياه الإقليمية للقطاع، تؤكد الورقة زيادة مسافة الصيد البالغة 6 أميال بحرية تدريجيًا إلى ما لا يقل عن 12 ميلا «بالتنسيق بين السلطة وإسرائيل». كذلك تنسق السلطة مع سلطات الاحتلال بشأن الموضوعات المالية المتعلقة بغزة.
التفاصيل نفسها التي كشفت عنها المصادر الفلسطينية ذكرتها صحيفة «يديعوت احرونوت» العبرية على شكل خمس نقاط، مضيفة أن النقاش المتعلق بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين وإعادة جثث الجنود الإسرائيليين «سيكون ضمن آلية المفاوضات الحالية وليس في سياق صفقات منفردة ومستقلة كما تأمل الحركة». لكن الطرفين لم يتطرقا إلى قضية معبر رفح وهل هي جزء من الوثيقة المصرية أو سيجري الاتفاق عليها عبر وثيقة مصرية ـ فلسطينية دون أي علاقة بإسرائيل كما شددت القاهرة سابقا.
مقابل ذلك، تحدث رئيس الوفد الفلسطيني في القاهرة وهو من حركة «فتح»، عزام الأحمد، قائلا إن الموقف الاسرائيلي ينطلق من أن الاحتلال يريد فرض ما يشاء ويتصرف كأنه لا يوجد اتفاقات سابقة «أي بمنطق البدء من الصفر». وأضاف في مؤتمر صحافي أن الوفد الإسرئيلي يتعامل مع الوفد الفلسطيني على أنه غير موحد وأن كل بند يحاكي فصيلا دون الآخر كما كان يتعمد السفر الدائم من القاهرة لتل أبيب والعكس لإضاعة الوقت، «لكننا نعمل بصورة موحدة». وأعلن الأحمد أن مصر تتفهم مطالب وفده «لكن كل بند سينفذ بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية الشرعية».
الطريقة الإسرائيلية في التفكير، كما أظهرها الأحمد، والورقة المصرية التي طرحت أمس، كلتاهما تمكن مطابقتهما بما طرحه وزير مالية العدو رئيس حزب «يوجد مستقبل»، يائير لابيد، الذي قال إنه يعمل في هذه الأيام على خطة سياسية جديدة لحل بعيد المدى مع غزة.
وكشفت صحيفة «معاريف» أنه في قلب مبادرة لابيد يوجد مؤتمر دولي يضمن عودة السلطة إلى الحكم في القطاع بدلاً من «حماس»، «وذلك في المرحلة الأولى في بند المعابر». ويقترح أيضا أن تكون السلطة برئاسة في المراحل التالية مسؤولة عن كل أموال الإعمار التي تصل إلى غزة من الأسرة الدولية، «بما في ذلك الرواتب التي طالبت بها حماس». وفي المرحلة الثالثة، يحدد المؤتمر اشتراطات إعمار غزة بما يضمن أمن الإسرائيليين «أي تجريد القطاع من الوسائل القتالية».
ووفق خطة الوزير «تدير مصر المؤتمر ويشارك فيه ممثلو إسرائيل، والسلطة والولايات المتحدة والرباعية والأردن والسعودية والإمارات وقطر». ويتفق في المؤتمر أيضاً على «طاولة الدول المانحة» التي تحدد آلية إعمار القطاع في ظل تعزيز العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة والدول العربية.
في محيط لابيد هناك من يشدد على أن هذه مسيرة استكمالية واجبة الواقع لمحادثات القاهرة، «وأنه حتى لو اتفق في المحادثات على تحويل الأموال لإعمار قطاع غزة عبر السلطة، فإنه من دون آلية دولية ترتب ذلك وتشرف عليه، لا أحد يمكنه أن يضمن أن من الباب الخلفي ستتلقى حماس تمويلاً إضافياً من قطر أو جهات أخرى»، والحديث يجري عن مؤتمر الدول المانحة الذي يخطط لانعقاده في نيويورك الشهر المقبل. ويرى لابيد أن خطته تهدف إلى خلق رفاهية لسكان غزة والمنطقة بأسرها، «ورافعة لتعزيز المحور السياسي المعتدل في المنطقة بقيادة مصر».
في المقابل، كشف نائب رئيس وزراء حكومة التوافق زياد أبو عمرو عن تحضيرات بدأت فعلياً لعقد مؤتمر دولي للمانحين من أجل إعادة الإعمار في شرم الشيخ المصرية، «وذلك برعاية فلسطينية ـ مصرية ـ نرويجية في الأول من شهر أيلول المقبل». ومن المهم الإشارة إلى أن أبو عمرو وصل أمس إلى غزة برفقة الوزير السابق كمال الشرافي عبر معبر بيت حانون «إيريز» لأول مرة منذ بدء تشكيل الحكومة، وخاصة أن الاحتلال منع وزراءها من دخول القطاع سابقاً.
أيضاً في الجانب الإسرائيلي (يحيى دبوق)، بدا أن واقع المواجهة في غزة مفتوح، فقد كان مقدراً منذ اللحظة الأولى أن الفصائل الفلسطينية لا يمكنها إنهاء المعركة بلا إنجازات، لكن تل أبيب معنية بأن تنهي المعركة بلا إنجازات فلسطينية، فيما الحل يتركز بين الحدين.
وحتى اللحظات الأخيرة أثمر إصرار الفلسطينيين على تليين المواقف المعادية لهم. فقد اتضح خلال أيام المباحثات أن إسرائيل تراجعت بالتدريج، كذلك تراجع الوسطاء و«الخصوم غير الأعداء» وباتوا يدركون أن التصلب في المواقف بما يزيد على مطالب الاحتلال نفسه، وصل إلى حائط مسدود.
بناءً على ذلك، يجري في القاهرة إقناع الفلسطينيين بأن ما حققوه حتى الآن هو أقصى ما يمكن أن يتحقق. في المقابل، بدت إسرائيل أمس كأنها أخلت الساحة للمواقف المتطرفة التي قادها عدد من وزرائها، فأطلقوا تهديدات جديدة ـ قديمة بشأن إعادة احتلال غزة، واستئناف القتال البري حتى إنهاء المقاومة.
وإلى جانب هذه التهديدات، أعلن الجيش الإسرائيلي، عبر مراسلي وسائل الإعلام العبرية، أنه أعاد حشد قواته على تخوم القطاع استعداداً لأي مرحلة جديدة، وهو ما فهم منه محاولة ضغط على المتحاورين، فضلاً عن تجنب سيناريو التصعيد الذي نفذته المقاومة ما بين التهدئتين حينما عادت إلى إطلاق الصواريخ مباشرة.
(الأخبار)