غزة | هل يصدق أحد أن الطائرات الحربية الإسرائيلية لاحقت طفلاً نجا من قصفها الأول، فقتلته بعد عشرة أيام؟ نعم، إنها حقيقة الحرب في غزة، ومنها قصة استشهاد الطفل إبراهيم الدواوسة، ابن التاسعة، الذي كان يقطن مع ذويه في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، حيث باغته الطيران الحربي ظهر الجمعة الماضية بصاروخ من طائرة استطلاع فجّر رأسه وأسقطه أرضاً.
خرج هذا الطفل لأداء صلاة الجمعة الأخيرة في حياته بعدما نادى مؤذن مسجد النور المحمدي القريب من سكنه أن حيّ على الصلاة، وكان قد استحمّ ولبس ثياباً جديدة كأنما كان يستشعر بقرب الأجل، فآثر الموت على طهارة.
إنها آلة الحرب التي لا تضع خطوطاً حمراً للطفولة أو الإنسانية. بكل سهولة، ألقت حممها فوق رأس الناس الذين كانوا يتوافدون إلى المسجد، وحينما أصاب الصاروخ رأس الطفل، هرع المصلون إلى مكانه ليجدوه غارقاً في دمه.
بمجرد أن تناهى صوت القصف إلى مسامع والدة إبراهيم صرخت واضعة يدها على قلبها، ونادت بصوت عال: «إبراهيم، وينك يا ولدي». كأنه قدر الأمهات أن يشعرن بفقدان فلذات الكبد قبل أن يخبرها أحد بنبأ الوفاة. هرعت الأم، كما تقول لـ«الأخبار»، نحو النافذة لتتفقد أثر طفلها الذي خرج قبل لحظات، فإذا بها تشاهده محمولاً بين أيدي أهالي الحيّ، وصرخت: «راح إبراهيم».
في تلك اللحظة، خرج والد إبراهيم، «أبو جمال»، متجهاً إلى المستشفى لرؤية جثة طفله، فوجده راقداً على السرير وقد تحطمت جمجمته وطار نصفها، فأخذ يصيح أمام الكاميرات: «حرام عليكم، شو سوولكم الأطفال حتى تقتلوهم هيك. يا الله».
يشير الأب المكلوم إلى أن طفله واحد من بين شقيقين آخرين يصغرانه سناً. اللافت أن يذكر أن إبراهيم أصيب قبل نحو عشرة أيام من استشهاده في ذراعه اليسرى، وذلك بعد إلقاء الطائرات الحربية نيرانها على رؤوس الأطفال في مخيم الشاطئ صباح عيد الفطر الماضي، مضيفاً لـ«الأخبار»: «في ذلك اليوم نجا إبراهيم بأعجوبة وحمدنا الله كثيراً على سلامته».
منذ إصابة الشهيد أول مرة، أكد والده الخمسيني أنه كان شديد الحرص على حياة صغاره، وخصوصاً إبراهيم، فألزمهم البيت وحرمهم الخروج إلا للضرورة، «لكن القدر أراد له أن يمضي شهيداً بعد عشرة أيام على إصابته». ويروي أحد شهود العيان أن الصاروخ استهدف إبراهيم مباشرة، وعلى مقربة منه صديقه أحمد الذي أصيب بجروح بالغة، مع العلم أن استهدافهما جاء بالتزامن مع إخفاق المحاولة الأولى لتهدئة كان مقدراً لها أن تمتد لثلاثة أيام.
منذ بداية الحرب، كان واضحاً أن الأطفال يدفعون الثمن الباهظ بفعل استهدافهم مباشرة، وتشير الإحصاءات الطبية إلى أن عدد الشهداء من الأطفال بلغ أكثر من 430 طفلاً، فضلاً عن آلاف الإصابات.
إلى قصة أخرى وصلت فيها بشاعة الجرائم الإسرائيلية إلى حدّ تشويه ملامح طفل لم يتجاوز هو الآخر تسعة أعوام، فسرقت بصره بغمضة عين من دون أن تكترث ببراءته. هو الطفل محمد بدران ابن مخيم النصيرات وسط القطاع، الذي يرقد على سرير العناية المكثفة في مستشفى الشفاء في غزة، لعل القدر يسعف الأطباء في إعادته إلى الحياة بوجه جميل غير الذي شوّهته الحمم النارية.
ومضت أسرة محمد المكونة من تسعة أفراد إلى فراشها ليلة الثلاثين من تموز الماضي، بعد أن تناولت طعام العشاء على وقع القصف المتواصل، لكنّ صاروخاً اقتحم سكون المنزل ووصل حجرة الأطفال السبعة فدمرها فوق رؤوس الصغار.
الأطفال السبعة أصيبوا جراء القصف، لكن محمد كان الأكثر بؤساً لجهة نوعية الإصابة وحجمها التي تعرض لها داخل حجرته الآمنة. ويعاني الآن، كما أفاد رئيس قسم الاستقبال والطوارئ في «الشفاء»، الطبيب أيمن السحباني، مشكلة بالغة في التنفس، ولا يزال يقيم على التنفس الاصطناعي، «فضلاً عن أنه فقد النطق والبصر».
وأشار السحباني إلى أن الطفل في انتظار الحصول على تحويلة للعلاج في الخارج، نظراً إلى أوضاعه الصحية الحرجة، مؤكداً أن حالة بدران من أسوأ الحالات التي جرى التعامل معها خلال الحرب.
الصغير محمد الذي جاء القصف على عينيه أفقده اليمنى، لكن والدته تأمل أن يستعيد البصر في عينه اليسرى، علماً بأن الأطباء أخبروها بخطورة حالته واستحالة معالجته داخل غزة بسبب ضعف الإمكانات.
ولما جاء الطاقم الطبي بشقيقته إيمان (17 عاماً) لتقيم بجوار شقيقها في غرفة واحدة، أمسكت يده وأخذت تبكي، فيما لم يرها، لكنه تمسك بأصابعها أكثر فأكثر.
خلال البحث عن نضال بدران، وهو والد محمد، تبين أنه خضع إثر القصف لعدة عمليات جراحية، وقال الأطباء إن حالته حرجة جداً، لكنهم أعلنوا استشهاده بعد ساعات ليفقد بذلك محمد أكثر الناس حباً وعطفاً عليه، ويصبح يتيم الأب أيضاً.
بقيت الوالدة توزع حنانها على مدار الساعة بين أطفالها السبعة المصابين إما بتهتك في الأعصاب أو كسر بالعظام مع حروق في الجلد، وتسرد لـ«الأخبار»: «كان الصغار يحلمون بقدوم العيد واستفاقوا على الموت. لماذا كل هذه الهمجية؟».
وينقل أحد الشهود من غزة أن أحد الأطفال الذين استشهدوا في مخيم الشاطئ أمام الأرجوحة يوم العيد، وجد الأطباء في المستشفى أصابع يده مغلقة، وما إن فتحوها حتى ظهرت منها عملة معدنية صغيرة كان ينوي بها الطفل وفق حديث رفاقه أن يدفعها لصاحب الأرجوحة حينما يأتي دوره.