لم يكن فوز زعيم «العدالة والتنمية» ومرشحه رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية مفاجئاً. كل الإحصاءات أشارت في الفترة الماضية إلى أن الرجل «ضمِن» الكرسي الرئاسي حتى قبيل إملاء تعديل النقاط الستين في الدستور التركي عام ٢٠١٠، عبر كتلته النيابية ذات الأغلبية في البرلمان التركي. تعديلات، زادت من صلاحيات رئيس الجمهورية وحجّمت سلطة العسكر «حرّاس العلمانية» في مرحلة هيمنة الإسلام السياسي على مفاصل ثاني أكبر دولة في الحلف الأطلسي، بدءاً من السياسة الخارجية، وصولاً إلى أصغر وسيلة إعلامية.
حصل «حفيد العثمانيين»، مثلما عرّف عن نفسه في أحد خطاباته، على نسبة ٥١,٨٪ من أصوات الناخبين، قاطعاً الطريق أمام حسابات تحالفات الجولة الثانية من الانتخابات، متفوقاً على أقرب منافسيه أكمل الدين إحسان أوغلو بنسبة فاقت ١٢٪، فيما لم يبلغ المرشح الثالث صلاح الدين ديميرتاش عتبة ١٠٪.

خريطة توزع الأصوات

بالنظر إلى خريطة توزّع الأصوات وتفوّق المرشحين في الولايات التركية الـ٨١، لا يُلاحظ وجود تغيير جوهري منذ استفتاء ٢٠١٠ أو انتخابات ٢٠١٤ البلدية. إذ نجح رئيس الوزراء السابق في حصد أصوات كل ولايات الأناضول الأوسط وشمال شرق البلاد وساحل البحر الأسود، فيما بقي ساحل المتوسط «أتاتوركياً» والشرق الكردي كردياً.
اكتسح أردوغان الأصوات في ولاية ريزة الساحلية على البحر الأسود، حيث منبت العائلة، فنال نسبة ٨٠,٥٪، وهو أعلى رقم وصل إليه بين الولايات. فيما حصد غريمه إحسان أوغلو النسبة الأكبر في ولاية كيركلاريلي في القسم الأوروبي من البلاد، وبلغت ٦٨٪. أما المرشح الكردي، فقد حصل على النسبة الأعلى في الانتخابات في ولاية واحدة، حيث بلغت ٨٢,٩٪ في شيرناك معقل «العمال الكردستاني» جنوب شرق البلاد.

مرشح إسلامي للمعارضة العلمانية

خسر أكمل الدين إحسان أوغلو، المرشح التوافقي «الأغرب»، حين اتفق كلٌّ من «حزب الشعب الجمهوري»، وهو حزب مؤسس تركية العلمانية مصطفى كمال، المعارضة الأم في البلاد ذات التوجهات اليسارية، مع الحزب القومي اليميني «الحركة القومية»، على تسمية شخصية إسلامية في محاولة لمجاراة المزاج الإسلامي المهيمن على البلاد.

سجلت هذه
الانتخابات أدنى نسبة مشاركة شعبية في انتخابات تركية


خطوةٌ لم تقتصر نتائجها على الفشل في تحقيق الهدف المأمول بانتزاع أصوات أنصار فتح الله غولن غريم أردوغان في الاسلام السياسي، فقط، بل كانت أحد الأسباب الرئيسية لامتناع ١٣ مليون ناخب، معظمهم من أصحاب التوجه اليساري في البلاد عن التصويت، بحسب أرقام المشاركة الخاصة بكل ولاية معروفة الصبغة والتوجه، ليحصل الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي على نسبة ٣٨,٤٪ فقط، وهي النسبة التي اعتاد مرشح حزب «الشعب الجمهوري» الحصول عليها في الاستحقاقات الانتخابية من دون تحالفات سياسية.

أرقام ودلائل

اللافت في نتائج التصويت احتلال أردوغان المرتبة الثانية في الولايات الكردية بعد مرشح «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، ما قد يدل على تنامي النزعة الإسلامية لدى الأكراد رغم بقاء الشعور القومي والأمل بإقامة الدولة الكردية.
الملاحظة الثانية هي تزايد أصوات ديميرتاش، بمعنى آخر الحزب الكردي. سرُّ هذه الزيادة هو نيل مرشح الأكراد صوت الناخب العلوي التركي. على سبيل المثال، تجاوزت نسبة أصوات ديميرتاش في ولاية تونجيلي ٥٢٪، وتضاعفت نسبة أصواته في إسطنبول التي يشكّل العلويون ثلث سكانها لتصل إلى ٩٪. كذلك ارتفعت النسبة في أضنة إلى ١٠٪ بعدما كانت أقل من ٧٪ في الانتخابات السابقة، والحالة ذاتها في الولايات الأخرى التي يعيش فيها علويون أتراك، كمرعش وملاطية وغيرها، ما يعني أن حزب «الشعب الجمهوري» الذي خسر أصوات الأكراد مع بدء تشكيل الأحزاب الكردية في بداية تسعينيات القرن الماضي يخسر اليوم أصوات الأقلية الثانية في البلاد. إذ يبدو أن الناخب العلوي فضّل المرشح الكردي على أن يصوّت للمرشح الإسلامي أو للحزب العلماني بخطابه المحافظ.
ورغم أنها المرة الأولى التي ينتخب فيها الشعب التركي رئيسه من طريق الاقتراع المباشر، سجلت هذه الانتخابات أدنى نسبة مشاركة شعبية في انتخابات تركية مقارنةً بالانتخابات البلدية في ٣٠ آذار الماضي وما سبقتها من عمليات تصويت في المسيرة السياسية للدولة المؤسسة عام ١٩٢٣. ففيما تجاوزت نسبة المشاركة في الانتخابات البلدية الأخيرة قبل أشهر ٨٩٪، لم تصل النسبة في الانتخابات الحالية إلى ٧٥٪، بينما شهدت مدينة إسطنبول أدنى نسبة مشاركة في الانتخابات في تاريخها، منخفضةً إلى النصف تقريباً.

تصريحات ورسائل مبطنة

لم ينتظر أردوغان إعلان النتائج رسمياً حين أطلّ عبر شرفة مقر حزب «العدالة والتنمية» في أنقرة، ملقياً خطاباً احتوى على الكثير من «الأفكار العاطفية» بحسب تعبيره. لكن اللافت في خطابه كان تسميته مدناً بحد ذاتها، حين اعتبر فوزه في الانتخابات «انتصاراً لإسلام آباد وكابول وغزة ورام الله والقدس وحلب وحماة وحمص ودمشق»، ما يعيد إلى الأذهان نظرية الحلم العثماني للسلطان أردوغان.
التصريح اللافت الثاني جاء من المتحدث الرسمي باسم الحكومة التركية حسين تشيليك الذي أعلن أول من أمس موعد اجتماع الأمانة العامة للحزب الحاكم المقرر عقده في ٢٨ آب ليومٍ واحد. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن النقطة الأبرز في هذا الاجتماع هو انتخاب بديل أردوغان لرئاسة الحزب، وبالتالي المرشح المحتمل لرئاسة الحكومة، فإن تقديم هذا اليوم يحول عائقاً أمام ترشح الرئيس الحالي للبلاد عبد الله غول لهذا المنصب، حيث تنتهي ولايته الرئاسية يوم ٢٨ آب. ما يعني أنه مجبر، في حال رغبته في المشاركة في الاجتماع، على الاستقالة من منصبه قبل ٢٤ ساعة على الأقل، لأن الدستور التركي يحتّم على رئيس الجمهورية عدم الانتماء إلى أي حزب سياسي. خطوة تفسّر بأنها تهدف إلى إقصاء غول، وبالتالي دفع وزير الخارجية الحالي، ومخطّط السياسة التركية أحمد داوود أوغلو لشغل المنصبين.