لا يشير تسلسل التطورات في غزة منذ بداية الحرب إلى أن المقاومة منعتقة من سطوة صراع المحاور الدولية والإقليمية، رغم أنها اتخذت قرارات التهدئة بناءً على تقدير للموقف ينبع من الميدان، كما ظهر في الهدنتين الماضية والجارية. وللعلم فإن خيوط حكاية المحاور ليست جديدة، فقد ظهر في الحرب السابقة 2012 كيف كان لمساندة مصر (عهد محمد مرسي) دور في كبير في إيقاف الحرب مبكراً.
في هذه الحرب طرحت منذ اليوم العاشر للعدوان الورقة المصرية، على أن تكون مسوّدة يجري الاتفاق عليها لوقف إطلاق النار، وردّت المقاومة بعد ذلك بيومين سجلت بمجموعة من الملاحظات على مضمون المبادرة، لكنها لم تناقشها كثيراً حتى قررت البحث عن مساحات جديدة للتفاوض. كل ذلك قبل أن يخرج الخط السياسي لحركة «حماس» من جعبته بنوداً بديلة اقترحتها، كما تورد مصادر فلسطينية، السلطة أولاً وتركيا ثانياً وقطر أخيراً.
جلّ التعديلات التي قدمت إلى القاهرة آنذاك كانت تتمحور حول أربعة بنود هي وقف العدوان تماماً ورفع الحصار والإفراج عن أسرى محررين وضمان منع الاغتيالات. لكن بعد عشرين يوماً ونحو ألف شهيد، طبّقت هدنة لثلاثة أيام، وعادت الفصائل إلى العاصمة المصرية لتبني على الورقة نفسها، لكنها تجاوزت تعديلاتها وطرحت اثني عشر بنداً تفصيلياً في ستة بنود رئيسية.
تضيف المصادر التي تتحفظ على اسمها أن الدوحة سارعت إلى تنبيه «حماس» إلى ضرورة أن تشمل البنود شرطاً يقضي بإدخال الأموال إلى غزة من أجل حل مشكلة الرواتب لحكومة غزة السابقة، مع أن ذلك يخالف قانون العقوبات الأميركية على البنوك، كذلك طرحت أنقرة في مؤتمر باريس الخماسي أن تفتح ممراً بحرياً لغزة، وليس ميناءً كاملاً، يربطها بقبرص التركية أو العاصمة نفسها، ثم أضاف رئيس السلطة محمود عباس على مهمة الوفد الفلسطيني بند المطار الذي كان جزءاً من اتفاق أوسلو، وهكذا اتسعت المطالب لتشمل لاحقاً الحديث عن أسرى الصفقة الرابعة (بين السلطة والاحتلال) وتلميحاً إلى وقف الاستيطان.
في الجانب المصري، لم تعترض المخابرات على جملة هذه المطالب، ونقلتها فعلاً إلى الوفد الإسرائيلي، لكنها أصرّت على وضع قضية معبر رفح بينها وبين غزة خارج إطار هذا الاتفاق، وعبّرت عن قلقها من الوجود التركي بجوارها، بناءً على أن أنقرة عرضت التكفل بإنشاء الممر البحري وإدارته، كذلك أوحت بقلق كبير من التدخل القطري في قضية إعادة الإعمار.
هنا، دخلت مفاوضات التهدئة ومصير قطاع غزة في دهاليز المحاور. وصحيح أن هذه المحاور كانت موجودة قبل ذلك، لكنها صارت الآن أكثر وضوحاً وتدخلها أكثر فجاجة، بل إن ممثلي بعض هذه الدول صادروا الدور الفلسطيني، فتكلمت تركيا وقطر بلسان «حماس» دون الفصائل الأخرى، فيما ظلت الجهاد الإسلامي تقول إنه لا غنى عن دور مصر!
للتأكد أكثر، يمكن النظر إلى مقالة كتبها قبل أيام وزير الخارجية القطري خالد العطية ونشرها موقع قناة CNN. فهو بعد أن يرى أن شعب غزة بحاجة إلى «اتفاق سلام ينهي الأعمال العدائية ويرفع الحصار القائم منذ عام 2007، وإلى المساعدات الإنسانية والتمويل من أجل التنمية»، يصل إلى مطلب هو «اتفاقية شاملة يكون من شأنها إنهاء الاحتلال وإقامة دولتين لشعبين، ما يسمح للإسرائيليين والفلسطينيين بالعيش جنباً إلى جنب في سلام وأمن».
وأيضاً ترجمت هذه الرسالة القطرية مطلب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، باستغلال فرصة المباحثات غير المباشرة لإعادة المفاوضات إلى مجراها، وذلك بقول العطية: «السلام يجب أن يتحقق بالمفاوضات، وأن تكون جميع أطراف الأزمة ممثلة فيها». ويستدرك الوزير قائلاً إن «دولة قطر لا تطالب بأن تكون لاعباً رئيسياً على الساحة الدولية، لكنها تتبنى سياسة الباب المفتوح التي تركز على بناء علاقات والتوسط في حل النزاعات»، مختتماً: «سنبقي الباب مفتوحاً أمام السلام».
هذا الكلام يتقاطع مع ما نقل عن لقاء الأمير القطري تميم بن حمد مع الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز، فيقول الأول إنه جاء في بداية الحرب لينقل للثاني حقيقة ما يجري في غزة «خوفاً من حرف المسار»، وليوضح له أن الدوحة لا تمارس سياسة المحاور، «وإنْ كان هناك في قطر سابقاً من أصابه الغرور بعظمة قطر وحجمها».
وأوضح «الأمير الشاب» للملك السعودي أن لا قيمة لقطر بلا خليجيتها أو عروبتها، «بل هي جاهزة للسير وراءك وبإشارتك لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني». وأضاف: «يا جلالة الملك، إن إيران وحزب الله وسوريا موجودون في غزة، فلا نغمض أعيننا عن ذلك، والرئيس السوري بشار الأسد أعلن أن سوريا تعرف كيف ترد على العدوان وفي أي ساعة، رغم الخلاف الدموي بينه وبين حماس». وأردف قائلاً: «لنترك يا سيدي حساب حماس للمستقبل، ولتكن وقفتنا جميعاً مع الشعب الفلسطيني».
عودة إلى الأساس. لا يمكن إنكار أن الميناء والمطار وفتح المعابر حقوق واجبة للشعب الفلسطيني. وبغض النظر عن أنها نتاج سابق لاتفاق أوسلو للسلام، فإن المطالبة الآن صارت تحت ظرف تقدم المقاومة في الميدان، لكنها تصعّب إنهاء الحرب وصارت بليلة وضحاها مطلباً حمساوياً على وجه الخصوص، عبّرت عنه كتائب القسام في خطاب المتحدث باسمها أبو عبيدة الذي ظهر فاتحاً أزرار قميصه ومشمّراً عن يديه، لإظهار أن الميناء دونه حرب استنزاف كبيرة، حتى قبل أن يتبدّى الرد الإسرائيلي.
ولمن لا يصدق، تذكر المصادر المقربة من الوفد أن قيادات «حماس» لم يشعروا براحة في التعامل مع المصريين، خاصة أن إطلالات الرئيس عبد الفتاح السيسي كانت تنكأ الجرح الإخواني وتعيد مشاهد ليست بعيدة إلى الذاكرة، فضلاً عن بعض الفجاجة المصرية خلال المباحثات.
وعندما ينعتق القطاع من قبضة معبر رفح والجانب المصري ويشق طريقه إلى العالم، سيختلف الأمر بالنسبة إلى «الإخوان» كثيراً. هكذا ترى مصر القضية، لذلك تبدي رفضاً مبطناً تحت الخوف من الرفض الإسرائيلي، بل قد يمكن للقيادات المصرية أن يتبلد شعورها تجاه الدم في غزة، مقابل ألا يحدث مثل هذا السيناريو. وحتى السيسي حافظ في خطابه خلال الحرب على ابتسامته، لأن الموضوع يتخطى الحفاظ إلى الحاضنة الشعبية، وربما يكون رأسه ثمناً للحظة ضعف إنساني إن كانت موجودة لديه.
من ناحية الضمان، يوجد في مياه البحر أيدٍ أميركية وإسرائيلية وتركية تجعل الرقابة على الممر المائي مطمئنة، وتزيد الضمانات بالمراقبة الأوروبية، كذلك لا يضرّ إسرائيل مطلقاً أن توقّع اليوم على اتفاق تنسفه غداً، وتاريخها زاخر بذلك. وفي ساعات محدودة، كما دمرت مطار غزة الدولي ابن اتفاق أوسلو، فهي ستتعامل بالمثل وقت الحاجة مع أي إنجاز فلسطيني جديد.
تأسيساً على ذلك، أصبح واضحاً أن أطراف المعركة كثر، ولم تعد محصورة في المقاومة والاحتلال فقط. بل لو كان الأمر كذلك لانتهت المعركة وحقنت الدماء منذ زمن، واحتفظت المقاومة بإنجازها العسكري، فلا يجبرها أحد على رفع سقف مطالبها إلى هذا الحد الذي صار أقرب إلى الحل الشامل واستقلالية غزة كدولة، ولا هي أيضاً كانت سترضى بالمبادرة المصرية بصيغتها الأولى من الأساس.
بين الهدنتين مضت ساعات الاستنزاف الدامية على الضحايا، وفرحت إسرائيل باستغلالها المشهد لتمارس لعبتها المحببة في التفاوض وكسب الوقت، وسط خيارات فلسطينية ضيقة في مقابل مساحات واسعة للعدو، بعدما تخلص من ضغط العملية البرية وأصبح «سيد الجو» من جديد.
رغم ذلك، لا يمكن إنكار تسجيل بعض الإيجابيات على المشهد، إذ هدد الوفد الفلسطيني بالانسحاب قبل التهدئة الجارية في حال اشترط الإسرائيلي أي بنود قبل إعادة التفاوض، وهي المرة الأولى التي يسمع فيها صوت المفاوض الفلسطيني عالياً مقابل تاريخ حافل من الذل في المفاوضات بين رام الله وتل أبيب.